القائمة الرئيسية

الصفحات

نبش في ذاكرة حزينة - سلوى البحري صفاقس-تونس


قصة قصيرة

الليل بدأ يستعد للرحيل. وخيوط الفجر شرعت تتسلل عبر شقوق النافذة المكسورة. تثاءبت حزينة وجذبت أطراف الغطاءتستر جسدا ادماه الصقيع. كانت وإخوتها كثرا. بيدأن غرفة واحدة تجمعهم. دعت في سرها ان لا تستيقظ أمها. فهي تدرك الأنشودة اليومية التي ستعزفها لها. أما زلت نائمة؟أتحسبين نفسك أعزب؟ هيا أفيقي اما كفاك الليل كله؟ فتكمل لها حزينة الشمس في كبد السماء وانت مافتئت توقظينني. لقد سمعت اخاها يتلو هذه المحفوظة. وطالما اشفقت على سالم بطلها. وهاهي تكبر وتبلغ العاشرة من عمرها فتحسد سالم على جرأته في الرد على أمه. أما هي فتتلو الجملة وتقفز من فراشها. فلاوقت للشكوى. كلها دقائق وتجهز الأم البردعة.وتجعلها على ظهر الحمار. وبعد أن تثبت له الشكيمة تضع السلال وتتركها تتدلى. ثم تعود مهرولة للغرفة فتقبل أطفالها. وتتدثر بمعطفها الأسود القديم وقد غزته الندوب
و زانته الرتوق بالوانها القزحية. وتشد شالها الصوفي إلى راسها. وتعقده عقدا حتى لاتفلته الرياح. آنئذ تلتفت إلى حزينة فتغمرها بعذب قبلها. وتوصيها خيرا بإخوتها. ولاتنسى أن تطلب منها العناية بالمنزل. جملة واحدة تسقطها الام من لفظها. ويطرب سمع حزينة ويتوق لسماعها.ان تحثها على الدرس. ربما تكون الوالدة واثقة من نجاح ابنتها. لكن النار تحتاج وقودا لتتأجج.
ثم تطلق الأم تنهيدة وتلكز الحمار حتى تلتحق سريعا ببقية النسوة. ويقصدن حقول الزياتين في أطراف القرية او في القرى المجاورة. وماإن يتوارى طيف الأم حتى تسارع حزينة إلى إخوتها وتبدأ رحلتها مع الأمومة مبكرا. فتسارع إلى المطبخ الصغير وتملأ الصحن زيتا. وتسلق البيض. وتضع الزيتون المملح والكسيرات الساخنة على المائدة. وتبدأ بسحب البطانية عن إخوتها متحملة شتائمهم وصياحهم وضربهم احيانا. ولكن إذا فتحت فاها يسرعون لكتم صراخها بأيديهم. فلها صراخ فريد تفزع له الجارات وخاصة الجارة مبروكة. هذه المرأة الطيبة تعرف ما تكابده حزينة وأمها كل يوم. لذا يخشى الصبيان أن تكيل لهم من صنوف التوبيخ ما تأبى آذانهم أن تسمعه. فيغادرون الفراش الدافئ على مضض. ويتحلقون حول المائدة شاكرين ربهم على نعيمه. هكذا علمتهم الأم. حمد الله على نعمه قبل الأكل واجب. وبعده تراهم يبسطون أكفهم الصغيرة ويرفعون أبصارهم نحو السماء وقد لهجت ألسنتهم بما اعتمل في صدورهم من أماني النجاح والصحة وطول العمر والحج للوالدين. ثم يرتدي كل منهم ميدعته ويعلق بعنقه محفظة قدت من قماش وينطلقون مسرعين نحو المدرسة. وكثيرا ما يتأخر الأخ الأصغر يطلب من حزينة أن تكتب له الأنشودة الفرنسية فقد صعب عليه حفظها و هو يدرك ان المعلم إذا حدجه بنظرة سيكشف تقاعسه. فتضحك حزينة و تستسلم لأسلوب أخيها في الفرنسية فتكتب له "جولي كوكو جولي كوكو جون......" ولا تنسى أن تذكره باللحن وهي تضحك. حتى إذا استبطأه إخوته نادوه وقد كشفوا سره. فيمكرون به مكرا فكها. لكنه يغضب من مزاحهم ويطلق ساقيه للريح وصدى ضحكاتهم يلاحقه فيزيد في حنقه. أما حزينة فما زال أمامها ساعتان حتى تلتحق بالمدرسة. مازال الوقت باكرا أو هكذا خيل إليها. شرعت تجمع الأواني وتنظفها. ثم رتبت الغرفة. ونشرت الأغطية على الحبل كما تعودت أن تفعل إذا سطعت الشمس. مر الوقت سريعا ومازال أمامها إعداد الغداء. فأمها اليوم خرجت على عجل. ووالدها غادر قبلها. لن يستغرق الأمر وقتا طويلا. هكذا خيل إليها. ستخلط حبات الطماطم والفلفل والبصل معا. ثم تضيف بيضتين ويجهز الطعام. الحمد لله أنهت عملها. أطفأت الموقد. وقلبها يخفق بشدة. انها مازالت تذكر كيف انفجر وأحرق أمها لما زادته وهو ساخن قطرات من النفط. ابتعدت عنه مذعورة. وتناهى إلى سمعها صوت ألفته" عند الإشارة تكون الساعة التاسعة وخمسون دقيقة". انتفضت حزينة وسارعت تلتقط محفظتها وتغلق الباب خلفها. عدت جذلى تسابق الزمن وضفائرها تتراقص أمامها حتى بلغت مدرستها. ومازال التلاميذ يلعبون ويزدردون ما اشتهت بطونهم من لمج. وقفت تتأملهم من بعيد. لم تحفل بما كانوا يأكلون فالمدرسة عندها موطن الغذاء العقلي. لذا كانت الأولى دائما. استرجعت أنفاسها وزاغ بصرها في الساحة. وفجأة أقبلت نحوها مجموعة من الفتيات. نظرن لها ثم تغامزن . لم تأبه لهن حتى مررت سامية يدها على شعر حزينة. شعرك جميل طويل منسدل. وأطلقن ضحكات صفراء. وأضافت جميلة وفستان رائع أيضا. باغتها التعليق. عندها فقط أدركت حزينة سر نظراتهن الساخرة. لقد نسيت المسكينة أن تمشط شعرها. ولم تغير ملابسها. نظرت إلى حالها. فهالها منظرها. ثوب متسخ مبلل. شعر كالصوف منفوش يتطاير في كل الاتجاهات. فزعت المسكينة. خيل إليها أن كل التلاميذ يعرفون سرها. تصنعت ضحكة وأسرعت في اتجاه القاعة. تكومت في آخر طاولة وأطلقت دموعها من مقلتيها تسيل حارة غزيرة. أكانت صديقتاها تعلمان أنهما أغمدتا خنجرا داميا في بؤبؤ القلب. أعلمتا أنهما شطرتا لها الروح نصفين؟ وكيف لمن امتهن النحر أن يستوعب وجع الذبيحة؟


--------
سلوى البحري
صفاقس-تونس
Reactions

تعليقات