القائمة الرئيسية

الصفحات

واحد في صيغة الجمعكان الطقس باردا. والجو غائم .مررت الأمّ يدها بحنوّ على بطنها تتفقدجنينها وهي تردّد في سرّها اللهم ارزقني بنيّة. لقد فقدت الأمّ المسكينة كل فرح في حياتها مبكرّا . بدا أن جنينها يروم الخروج ليخفف عنها.
أيقظت أبناءها كانوا خمسة صبيان صغار. أطعمتهم بكل حنوّ . بدا لها أنّ حرارة ابنها البكر عبد المجيد مرتفعة.
_ انت مريض يا كبدي. سآخذك للطبيب.
لم يقتنع الصّغير. لكنّه يدرك انّه أمام هلع الأمّ سيرفع الراية. عانقها كما لم يعانقها ابدا. وسبقها إلى الخارج . وساق إخوته أمامه.كانت ضحكاتهم تدغدغ مسامع الأم. فتفيض سعادتها وتسكرها حتى الثمالة. وكيف لاتكون كذلك ولها ابن مثله. واحد في صيغة الجمع. هوالابن والاخ والأم والأب . كان يرعى إخوته في غيابها. إنّه ملاك أهداها الله إيّاه في وحدتها ويتمها. استسلمت الأم لخيالاتها.بينما سحب عبد المجيد في غفلة منها الفأس . كان يروم تنظيف الحديقة . فجأة اصطدم الفأس بحاجزمعدني . زاد بريق عينيه توهّجا وهو يرى جسما معدنيا اصفر تزيّنه سلاسل برّاقة يسلب وميضها الأبصار. تحلق هو واشقاؤه يحاولون اكتشاف هذا الطّلسم الذّهبي. أقبل فايق الأخ الأصغر يحبو غير عابئ بقطع الحصى التّي ادمت ركبتيه. أمسك عبد المجيد السّلاسل الذهبية وجدّفت به الأحلام في بحارها . سيبيع السّلاسل ويأخذ أمّه "للبلاد العربي". سيشتري لها كل ماتتمناه عيناها من حليّ وملابس. ان الأخ الأكبر في الاعراف هو الأب الثاني. سيشتري لأشقائه ما تشتهيه أنفسهم وتفتن به ابصارهم من ملابس وهدايا وكعك لذيذ فالعيد على الأبواب. وعيدهم هذه السنة مجلوّ بالتّبر. همّ عبد المجيد بالسلاسل يقتلعها . انزل الفأس بكل ماأوتي من قوّة.
تجهّزت الأمّ للخروج.فأخذت دفتر العلاج وأدخلت المفتاح في ثقب الباب وهمّت أن تديره .فجأة دوّى صوت كهزيم الرّعد يهز الأركان. أهي الحرب؟ ولكن حرب ماذا؟ الم تستقل بلادنا؟. ألقت الأم المفتاح وهرولت تتفقّد صغارهاوقلبها يكاد يقفز من ضلوعها. لم تكد تتخطى الجدار حتى زلزلت الأرض تحت قدميها. ماذا ترى؟ وهل يستطيع قلب الواصف ان ينقل هول المشهد؟ لقد كان الأبناء متناثرين كحبّات الزيتون تكسو الحمرة أجسادهم الغضّة. أسرعت الام كالمجنونة.لايارب كن بي رحيما. أبنائي لا. رفعت الأصغر فايق فبكى. الحمد لله مازال حيا. الثاني عبد الوهاب رآها فحبا نحوها مذعوراصارخا . الحمد لله مازال حيّا. هيا مازال ثلاثة . مابال قدمها تثقل خطاها؟ . امتار قليلة لاتستطيع قطعها. مرّت الثانية كالدّهر. ماست الأرض تحت قدميها. تكاد دقات قلبها تتوقف عن النّبض
._ اللهمّ يا رحمان ارحمني. نجّ ابنائي. اجعل ساعتي قبل ساعتهم.
بدأت تسمع أصواتا ولا تكاد تتبينها. قنبلة ... بقايا الحرب...جرفتها االامطار.... تمنت أن تسمع صرخة. هي التي وأدت صرخات صغارها قبل أن تولد وزرعت دروبهم زهوا . ويوشك طرحها أن يزهر. وهل يذبل الزهر في الربيع ؟. نهشتها الخواطر السوداء. ولا يقين. جرت قدميها جرا وبلغت المنتهى أخيرا. وادركت هول مصابها. لقد تكوّم ثلاثتهم وغطّت الدماء أجسادهم. رفعت الأول فسمعت أنينه. ماأرحمك يارب. مازال حيا. امتدت يدها مرتعشة ترفع عبد الخالق. ولكنه لايتحرك. افتكه أحدهم منها. سمعتهم يتمتمون مازال قلبه ينبض. الحمد لله. إذن انت تختبر صبري يارب. اللهم ارحمني انا ضعيفة أمام قوّتك. امتدت يدها لترفع حشاشة روحها عبد المجيد. الجسم الأول في جدار الصدّ. ألم يطلب منه والده ان يحرس إخوته في غيابه؟. وهاهو قدحرسهم و صدّ عنهم الأذى . رفعت الأم المكلومة الرأس المضرّج بالدماء . أكان قلبها خبيرها؟ أغادرها عبد المجيد دون وداع. أكان ذلك العناق الاخير.؟ أكانت تلك القبلات آخر الزاد؟ أمات هو ليحيا إخوته؟ . بدا لها انه ينظر إليهافاغرا فاه.
_لم ياحبيبي لاتحرك جفونك؟ لم لاتغلق فاك؟ لالاتسئ فهمي.. انا لم اشبع من حديثك. لكن الآن ارجوك بحقّ سهاد الليالي وآلام يتمي أغلق فمك وعينيك . سأوقف نزيفك بشالي.هيا أفق يا رجلي. انهض ياسندي. ياعكّازا جهّزته لكبري. يا أحنّ عليّ منّي. هيّا أجبني.
هزّته هزّا. نفضته نفضا. لكنّه لايجيب. أقبل الرجال. فدفعتهم عنها. وحضنته بكلّ ما في قلبها من لوعة. وكاّنه الحضن الاّخير . انتزعوه منها انتزاعا وحملوه إلى المستشفى. توافد الناس . هل راتهم الأم وهي تجري حافية القدمين لاتعرف من عاش من صغارها ومن مات؟يا الله كيف تستطيع عقول أن ترجم بحممهاأجسادا غضّة؟كيف تعدم عصافير لم تبن بعد أعشاشها؟ كيف تغتال طفولة لم تنه رسم أحلامها؟ أوّاه من قويّ سخر من ضعف الثّكالى وسرق منهنّ أعمارا من الفرح ماتت قبل أن تولد. أخيرا تماثل ثلاثة من الأبناء للشفاء. أما عبد الخالق فقد لزم غرفة الإنعاش شهرا.ظلّ فيه قبره محفورا ينتظره . لكن مازال في العمر بقية . أما القبر المجاور فقد سكنه عبد المجيد رحمه الله منذ ليلته الأولى. وأما الأم فقد أصابتها صدمة عصبية الزمتها المستكشفى مدة. وها قد غادرته ولكنها نسيت من يومها الفرح واستوطنت قلبها الأحزان.
مدت الام يدها تتحسس حملها. بدا ان ابنتها ملّت الانتظار وقررت ان تخرج للدنيا. ولدت الام وأنجبت بنتا واختار لها الأب من الأسماء سلوى لتنسيهما الأحزان وتزيل عنهما الهموم وتعوضهما فقدهما.. . لتكون واحدة في صيغة الجمع .فهل استطاعت أن تضمد لهما جراحا نسيانها صعب مستحيل؟ .
ليشهد الله أني لم أفعل شيئا منذ وعيت غير السعي في طاعتهما.

------
سلوى البحري /  تونس
Reactions

تعليقات