القائمة الرئيسية

الصفحات

 العلاج بالفنون الإبداعية أي الفنون التشكيلية، الموسيقى، الدراما ، الرقص و الأدب هو إحدى العلاجات النفسية البديلة التي ما انفك الجدل القائم حولها يدعو إلى وجوبية التخصص الأكاديمي فيها نظرا لحساسية الممارسة وضرورة الحذر في التعامل مع المُتَعَالَج. ليس العلاج بالفن احدى العلاجات الوظيفية و المهنية أو التقنيات الانشغالية، كما أنه ليس "سوسيوثيرابي" فكل من ورشات تعزيز الروابط الاجتماعية و التقويم السلوكي، التنشيط الاجتماعي و الثقافي، تنشيط الورشات الإبداعية، ورشات التعبير بالفن، الكوتشينق الفني، الوسيط الفني و المداخلات الفنية  كلها  تعتبر خارجة عن حقل العلاج بالفن. ليس العلاج بالفن دواء مخبريا أو ما يعادله فهو و كَكُل العلاجات النفسية  ليس له كغاية أولى نسف العارض، الترويح عن النفس، الإدماج والتنشئة الاجتماعية و إعادة التأهيل: فمشروعه الفسيح يتمحور حول التصالح مع الذات و تعزيز التقبل و بذلك السعي نحو الأفضلية و إدراك الرفاه النفسي تدريجيا من خلال لغة تواصلية ذات بعد رمزي. يهدف  هذا النوع من العلاج إلى زيارة منطقة الأسرار من خلال ضوابط علمية و شروط تفعل إمكانية المصارحة و التصالح بدون مكاشفة إذ  ينزلق  المتعالج نحو عوالم التمكين والإمكانية مسائلا بذلك كينونته من خلال تفعيل ديناميكية إبداعية من قبل المُمَارس يجب أن تكون غير إدارية بالأساس.
ما لا يجب فعله في حصص العلاج بالفن
1/  الاقتراب من حقل المحرمات الذي يختلف باختلاف الحالة أي عدم العمل فيه أو حوله فلا يتم التطرق للمكتوم  والمكبوت لأن العلاج بالفن ليس له منحى استفزازي.
2/  مهاجمة العارض إذ يجب احترام طرق تمظهره و كذلك عدم المباشرتية في تجنبه لأن العلاج بالفن ليس تأهيلا و لا يعتمد على الإنشائية من خلال الألم.
3/  عدم احترام الأساليب الدفاعية الذاتية للمتعالج فالعلاج بالفن ليس تعرى للذات و سلبا  لحق الاحتماء.
4/  مقاومة الالتفافية و السعي المباشر لتأليف طبيعة ثانية رغم أن العلاج بالفن ليس أيضا مجاملا  للذات المغالطة
5/  الانخراط  في المسافة الفيزيائية و التقرب من المتعالج  جسديا و مشاعريا، علاقات الصداقات و الإفراط في العطف و التعاطف.
يتم خلال الجلسة العلاجية التحليل الذاتي و الباطني للحالة من قبل المعالج و اقتراح إطار و ليس محتوى  من خلال "استراتيجية الالتفاف" حسب الفضاء المتوفر، الزمان، الفترة العلاجية، الشكل و الأدوات  و تحديد الوضعية العلاجية لتفعيل العلاقة الانتقالية و من ثمة الاحتواء الشكلي بطريقة ضمنية للعوارض و عدم التحريك الفجئي للمقاومة. يجب احترام الطرق الدفاعية للمتعالج  و الإنشاء من خلال العمل بما يسمى "بالتغيرات الصامتة" التي تحدث عنها فرانسوا جوليان عبر التركيز مع اللحظية و إنشائية العمل الفني. يلتجأ المعالج أحيانا إلى تذويب التساؤلات حول الحياة، الموت، الحب، الجنون و غيرها  في "النحن" من خلال الوضعية الانسانية بطريقة خافتة وغير مشبعة للأنا.
هل "الفن يحمينا من الحقيقة القاتلة" (نيتشه) ؟
     وفي تعريف أدق للعلاج بالفن حسب الطبيب النفسي جون بيار كلان رائد هذا النمط العلاجي في فرنسا في كتابه  (Penser l’art thérapie ) : » هو المرافقة و الدعم المقدم للأشخاص الذين يعيشون صعوبات و تحديات على المستوى النفسي، الجسدي، الاجتماعي و الوجودي من خلال إنتاج تشكيلي، صوتي، درامي، أدبي أو تعبيري جسماني. هي مقاربة سيكولوجية غير مباشراتية تتخذ من روائز الهشاشة مادة لها. أقل ما يبحث عنه هذا النمط العلاجي هو إماطة اللثام عن المعاني الدفينة للإنتاج الابداعي للمتعالج  و أشكاله اللاواعية و إنما السماح للشخص بإعادة بناء ذاته و كينونته في إطار ممنهج قائم على الرمزية بالأساس منطلقا من الإبداع  وإلى الإبداع. العلاج بالفن هو أيضا فن الانغماس من خلال عمل فني كرسالة مشفرة غير ثابتة و الاشتغال عليها و بالتالي الاشتغال على الذات بطريقة غير مباشرة، هو تقنية للالتفاف حول الذات و التقرب منها من خلال رمزية مصاحبة  «. يأتي العلاج بالفن  معززا للطرح العلمي الفيزيولوجي حول المرونة الدماغية و التي تتجلى في أهمية النشاط الإدراكي الذي يعمل على إنشاء شبكات اتصالية بين الخلايا العصبية المتحكمة في اكتساب الذاكرة و المعالجة  للمعلومات الواردة من المداخلات الحسية والاستجابات العاطفية، في ضل فرضية الاستمرار في إعادة توصيل الشبكات المنشأة مسبقا و هو ما يبدو أنه قد ينجح في الإبقاء على الخلايا العصبية لأطول وقت ممكن. لنا أن نُذَكرفي هذا السياق بتجربة الفنان أدريان هيل (1945) من خلال تفعيله  لتقنية العلاج بالفن بعد فترة مرضه بالسل في 1938 حيث تفرغ لرسم كل ما يحيط به و هو ما ساهم في تعزيز صحته النفسية متجاوزا تلك الفترة الحرجة ليطلق في سنة 1941 مفهوم العلاج بالفن في ضل تحفيز المؤِسسات الاستشفائية ، الهلال الأحمر و وزارة الصحة البريطانية لمبادرته. كما نجد أن مُدرج المسرح العلاجي جاكوب ليفي مورينو (1974-1889) الطبيب النفسي الأمريكي من أصول رومانية مؤِسس المسرح العلاجي يقول أن "الدراماثيرابي" تأتي معززة لأهمية العلاقات و العاطفة التي يرى أنها تدير كل أفعالنا و من ثمة يبرز أهمية التلقائية و الابداعية الفنية كنهج علاجي من خلال مسرح التلقائية ليطوره إلى البنية المسرحية للسيكودراما و التي تعتبر أحد طرائق العلاج بالدراما. الدراماثيرابي كنهج يمكن التطرق إليه من خلال مدخلين اثنين رغم تجاوزه في أغلب الأحيان البعد الشخصياتي إلى التعبيرية الجسدية: من الشخص إلى الشخصية أي من الأنا إلى الهو و من الشخصية إلى الشخص في عودة من الهو إلى الأنا. و في تدرج شرحي أعمق نقول أن العلاج بالفن لا يبحث عن إحكام السيطرة على اللاواعي و لكن يسعى إلى  تنشيطه ليكون العنصر الأساسي في التشافي الذاتي، فالإنتاج الفني لا يمثل بالضرورة المتعالج و إنما مراحل التدرج نحو التقليص من العارض و النقلة العميقة وخلق طرائق للتواصل مع الأنا من خلال الاستبطان أي دون  التطرق إلى الأنا قولا و إنما فعلا عبر مفاوضات و نقاشات مع المادة لتفعيل الشغف التراتبي و منه الفعل الانتقالي وهو أساس العلاج. 
     في جلسات العلاج بالفن يتم استخدام محامل فنية بغية تحريرالمتعالج من خلال التشكيل والصوتيات أو السرد الأدبي و غيرها من التقنيات فيتم الانطلاق من الأنا (1) المتألم الذي  يقوم بتسليم زمام الأمور لللأنا (2) المبدع البراغماتي و الذي قد يصبح بدوره أقل نشاطا في ضل تمكن المعالج و إتقان مواضع الصمت الثلاثة ليصبح الأنا (2) موجها من قبل المادة الفنية كمخاطب أول ليليها العمل الفني في طور الإنشاء فيدرك المتعالج كيف يكون مخترقا بالحس الفني الذي يستدعيه الإنتاج الإبداعي المُقدم عليه  فيطور بذلك فكره، محاولاته و حركاته نحو اكتمال مشروع الفعل الابداعي. لنا أن نخلص إذا إلى أن العلاج بالفن لا يقتصر على التعبيرية الإنشائية من خلال الإفراغ و التفريغ فهو ليس علاجا مشاعريا فالهدف الأساسي منه لا يقوم على التخلص من الأحاسيس  المزعجة و إنما تحويلها إلى قدرة على الخلق و الإبداع ثم التحرر منها من خلال المعالج كوسيط و المواد كوسائط فنية.
فهل يستحضر اليوم كل الممارسين للعلاج بالفن الاطار و الجهاز و الطرائق اللازمة  لمرافقة الأشخاص في وضعية إنتاجية وهل يتخذون حقا من المادة الفنية وسيطا علاجيا بطريقة تصفحية؟  أم أنهم  ينطلقون من منطقة الألم  ليعودوا إليها؟



-----------
د. صفاء غرسلي/ باريس

Reactions

تعليقات