القائمة الرئيسية

الصفحات


دخلت المركبة الفضائية في مجال طاقيّ شديد جدا لم تستطع منه فكاكا حملها، دون أن يشعر الرّوّاد ،إلى الطّرف الآخر من الكون.
الفضاء المرآة، من يتقدّم فيه يتأخّر، إذا توجّه أحدهم إلى اليمين تحرّك إلى اليسار. إنّه فضاء انعكاس المكان.
كان الرّوّاد يظنّون أنّهم لم يغادروا فضاءهم الحقيقي لكنهم اكتشفوا بعد مدّة ارتدادهم في السّن. لقد تحول الكهل إلى شابّ في بضعة أيّام وعادت الشّمطاء قائدة الرّحلة حسناء. لقد أصبح هناك صبية يتراكضون داخل السّفينة و يعبثون بأجهزتها .وبين الحين والحين ينبثق شخص لم يكن معهم من اللاّمكان، و يختفي آخر من الصّبيان كأن ّ وحشا خفيّا ابتلعه إلى عالم النّسيان.
خيّل إليهم أنّهم يرتدّون إلى البداية . بدأ كل شيء طبيعيّا لكن عندما لاح ثقب أسود حوله دوّامة من المجرّات تتداعى ، يرحيها كما ترحي الرّحى القمح، اكتشفوا هول المصير و المأزق الذي وقعوا فيه و لكن هيهات قد فات الأوان ...
لقد انجذبت المركبة في حركة دائريّة متقاربة من المركز، كلّما مرّت برهة تسارعت الحركة حتى أظلم المكان و لم يعد يأتيهم أيّ شعاع .غابوا عن الشّعور بحيث صارت أجسامهم هلاميّة، لا ماديّة، تسيل عبر نفق دوديّ يخترق قلب الثّقب الأسود حتى انبثقوا في الفضاء الضّديد ،حيث ينقلب كل شيء الى ضدّه ، كل شيء، كل شيء. حتى المادّة إلى المادّة المضادّة. الإلكترون الى بوزترون .وما هو سالب الى ما هو موجب .و الضدّ الى الضّديد .حتى المرأة تنقلب الى ضديدها والرّجل الى ضديدته بحيث عند حدوث مثل هذا الانقلاب لا يشعر احد بان هناك شيء قد تغيّر.
كلّ الوظائف في السّفينة تسير على أحسن ما يرام و كأنّ شيئا لم يقع. حتى سجلّات السّفينة انقلبت بحيث عدد الرّجال صار عدد النّساء، و عدد النّساء صار عدد الرّجال، والتي كانت متزوّجة تحولت متزوّجا ،و المتزوّج متزوّجة. حصل الانقلابان و لم يلحظ المسافرون عبر الأكوان أيّ تغيير. نزلوا على الأرض و عاد كل واحد إلى أهله. بعد فرحة الاستقبال و عودة الجميع الى منازلهم، لاحظ الأطفال انقلاب الأدوار، صار الأب يشغل المطبخ و الأم تتفرّج على مقابلة الكرة وتلعن الحظّ. والزّوجان اللّذان لم يشاركا مع بعضهما في الرّحلة ظلاّ ليلتهما في الفراش ينظران إلى بعضهما و لم يقوما بشيء. إذا طلب أحدهما فعلا يطلب لنفسه مثله الآخر. ظنّ الشّريك الأرضي أنّ هذا من آثار الرّحلة، ربما قضاء مدّة طويلة في الفراغ بين فضاءين يكون قد أثّر في السّلوكات، و من المحتمل أن يغيّر في تركيبة الجسم، أيضا.
لما استعصى الأمر عن الأطباء و العلماء كوّنوا فريقا و بدأوا من الّصفر. بدأوا بالكشف عن السّلاسل الجينيّة في السّجل الوراثيّ بالخلايا ، أي الدّنأ ، و قارنوها بالسّجلات المحفوظة لديهم قبل الرّحلة .هناك تطابق تامّ بما أن الجينات زوجيّة و متناظرة. أغلقوا الملفّ، و استخلصوا :سلوكات جرّاء السّفر في الفضاء، سوف تندثر بمرور الوقت.
إلّا أنّ زينوبيا وهي إحدى الباحثات الشابّات لم تقتنع بالخلاصة. ظلّت تقارن و تفترض وتحاكي الرّحلة على نماذج مختلفة باستعمال أقوى الحواسيب. كلّ النّماذج أعطت أنّ الانقلاب الثّاني يمّحي و يمحي أثر الأوّل حسب القاعدة الرّياضيّاتيّة التي تعلّمتْها في الإعدادي سالب مضروب في سالب يساوي موجب. و مع هذا، رغم ما توصّلت إليه أقوى الحواسيب و أقوى برمجيّات المحاكات إلّا أنّها لم تقتنع بأنّ الذهاب إلى الفضاء الضديد تمحي آثاره العودة إلى فضاء الواقع.
أغلقت المختبر و رجعت إلى المنزل. و عقلها لم يتوقّف عن التفكير، بما أن الرّحلة تمّت عبر نفق دوديّ لا يحصل تغيير في عمر المسافرين عبر النّفق، لأنّ النّقل آنيّ، في نفس اللّحظة، تتدمّر العيّنة الأصليّة في المنطلق وتظهر العيّنة النّهائيّة عند المنتهى. بحيث يندثر المسافر عند مدخل النفق و ينبعث في نفس اللحظة عند مخرجه. و مع هذا لابدّ أن تترك الرحلة أثرا! فما هو؟ .
أخذت حمّاما دافئا و أعدّت إبريقا من القهوة و جلست في غرفة النّوم وقد نشرت الوثائق على السّرير تتأمّل كليشيهات الدّنأ .
دخل عليها زوجها و وقف قُبَالتها، حتى هو من المختصّين في علم الوراثة و المجين. خاطبها مستغربا وهو يعلم براعتها ''لماذا تمسكين الكليشيهات مقلوبة؟''. ردّت عليه أنّها تمسكها بالطّريقة الصّحيحة وفق الإحداثيّات التي طبعها الجهاز. لكنّه تمسّك برأيه وأشار إلى جينوم محدّد يجب أن يكون في السّلسلة العليا من الرّنأ على اليمين، ولم هو في الأسفل ؟. تثبّتت فوجدت كلامه صحيحا. عندئذ أدارت الكليشيه الشفّاف نصف دورة ثم قلبته فأخذ كل جينوم مكانه الصّحيح. نطّت و عانقته حتى كادت تنقطع أنفاسه.
جمعت الفريق على عجل، و لم تنتظر حتى الصّباح، وعرضت عليهم الفرضيّة. شرحت . ما حصل ليس انقلابين متعاكسين ،و مثّلت الوضعيّة بالسّبّابة اليمنى في عكس اتّجاه السّبّابة اليسرى، إنّما هما انقلابان متعامدان مستقلّان، و مثّلت ثلاثيّ سطوح باستعمال اليد اليمنى بحيث وجّهت إلى الأعلى الإبهام و السبّابة إلى الأمام و الوسطى الى اليمين و ثنت الخنصر و البنصر و قالت :
- يمكن أن نعبّر عن الحالة بكتاب نديره كما نفتح قارورة الماء نصف دورة .ثم نديره كما ندير المفتاح نصف دورة ما نحصل عليه هو نظير مقلوب للكتاب . وكي نعيده إلى وضعه الأصلي إمّا أن نكرّر الدّورانين الأوّلين مع عكس ترتيبهما، فنعكس فعلهما و نلغيه أو ندير الكتاب نصف دورة كما نعرك المسرّع في مقود الدّراجة النّاريّة .
ازداد اهتمام الفريق و من كان أمامه كتاب أنجز الدورانات رغم أنه يعرف النتيجة. و البعض جرّب بعلبة سجائر.
واصلت زينوبيا :
-هم الآن معنا في الفضاء الزّمكاني و ليسوا معنا في البعد الواقعي. هم في فضاء زمكاني خيالي ، و حاولت التوضيح .كأنّهم شمعة أمام مرآة بحيث الحقيقيّة خلف المرآة و صورتها هي التي في الامام!...
غريب أن يقف أحدكم أمام المرآة فيكون جسمه خلفها و ماهو أمامها سوى صورته!...
لا يمكنهم تمييز وضعيّتهم عن الوضعية الطبيعية. هم لا يشعرون بأي تغيير . أجسامهم في الفضاء الضديد و مانراه منهم ما هو سوى انعكاس صورتهم على فضاء الواقع.
عمّ اضطراب القاعة حتى صارت كخليّة نحل. قطع صوت :
-كيف نجعل الخيال حقيقة؟... بشرط أن لا نجعلهم يغادرون في رحلة أخرى ذات انقلابين للعودة بهم من الزّمن الخيالي إلى الزّمن الحقيقي... ساد صمت.
كان مركز الأبحاث قرب مدينة بنزرت بتونس، عند الرأس الأبيض في أقصى نقطة إلى الشّمال في القارة الأفريقية. اقترح أحد الباحثين من إحدى دول جنوب الصّحراء نقلهم إلى رأس الرّجاء الصّالح في أقصى جنوب القارّة الإفريقيّة، قرب مدينة الكاب بإفريقيا الجنوبيّة ، حيث تأتي الشّمس من الغرب و تذهب من الشّرق! ربّما تؤثّر في نفوسهم هذه الظّاهرة فتصنع الأثر المنشود. بما أن سكان الأرض شمال خط الإستواء يرون الشمس تشرق عند شِمالهم و سكانها الذين هم جنوب خط الاستواء يرون الشمس تشرق عند يمينهم .
حملوهم إلى مدينة الكاب. و وضعوهم داخل مسرّع جزيئات نووية عظيم يسع المركبة التي أحضرت الرّوّاد المتحوّلين. أغلقوا المركبة جيّدا عليهم ثم قذفوها بالجزيئات النّووية الغريبة خياليّة الطّاقة... ما فوق نسبيّا، كأنّ السّفينة تتنقّل بسرعة تفوق سرعة الضّوء في فضاء خياليّ ... ضربت الجسيمات جسم السفّينة فاخترقته ثمّ عدّلته. كما اخترقت أجسامهم و هم في سبات عميق، فقلبت السّلاسل الجينيّة و أصلحت المجين. خرجوا إثر ذلك و كأنّهم لم يسافروا قطّ عبر الزّمكان.
(جمال الطّرودي/ تونس)
Reactions

تعليقات