القائمة الرئيسية

الصفحات

الكبارة (2) - عمار التيمومي


الكبارة 2:
(قلائد العنبر عبق البهاء على صدور النّساء)
من عادات الأعراب القِرَى وإن لم تكن لديهم بالكرم رغبةٌ فلعاداتهم المُتوارثة سلطة قاهرة في تسيير مجريات حياتهم إذ الأعراف هي قانون القوانين يصعب عليهم التملّص منه أو الإفلات من سطوته.. فإن نزل بهم ضيفٌ أحلّوه محلّ الصّدر وخدموه بعيون مُحبّة وصاغرة وبذلوا له خير ما يملكون وإن أدامت الاستقرارَ ببُيوتهم الفاقةُ فتكفي لمعات عيونهم وعباراتهم البسيطة غير المتكلّفة لتكشف مدى سعادتهم بمن يقصد ديارهم العامرة عزّةً وكرامةً وشموخًا_ فنحن ما سمعنا سابقًا عن كرامة تُستجدى من سلطان_ وإباءً تُصلب له قاماتهم وإن شابها عجز أو علل ولا تمتدّ منهم أيادي الذلّ وإن طوت بُطونَهم خصاصةٌ.. وتظلّ سحناتُهم موطن زهو وبشاشة و إن أمحلت أرضهم وخوت مطاميرهم وعدائلهم وجيوبهم وقطّب الفقرُ سرائرهم...
شهر رمضان هذا العام بالعزاعزة ليس كسابقيه فكريمة كبيرهم المعلّمة خُطبت إلى ابن خالتها المهندس بالعاصمة وسيكون العرس بعد العيد مباشرةً فالحركة في الدّار على غير العادة وقد كان الصّيام فرصة المتخاذلين لتجسيد مظاهر كسلهم.. أمّا اليوم فأنت ترى الأجسام تجدّ في النّشاط وإن لم تكن تهدف إلى مقصد والوجوه مصرّة على الابتسام وإن أذبلها الظّمأ وأذواها الجوع..لا مفرّ من إبداء الفرح بوجه "المرا برّانية" إذ حلّت ببيت الحاج مدام مفيدة وهي سيّدة خمسينية يوقّع مشيتها كعب حذائها العالي وهي ترتدي "كستيمًا" مثل الرّجال لكنّه لم يقوَ على لجم أنوثتها الصّارخة شعرها أرجوانيّ لا هو قصُر ليثبت ولا هو طال ليظفر صوتها صدّاح وكلامها عذب تزينه بعثرة حلوة لحرف القاف ورقصات حاجبيها الدّقيقين لا يكفّان عن الملاوعة وهي تتحدّث..
يستعدّ هذا البيت بتَنامٍ نحو اللّحظة الصّفر التي ستغادر زينة دار والدها عروسًا يتخاصم فيها الفرح والحزن: فرح بحياة حلمت بها لليال تجمعها بذاك الفتى الوسيم مصدّع قلوب العذارى ، وحزن على فراق بيت ألفته مذ ولدت فحوى كلّ حياتها ورعاها وهي ستغادره مصونًا تحت وابل من طلقات الرصاص من بارودة أبيها وصادح زغردات نسوة يطرّزن الفرحَ تطريزًا..
أمّا السيّدة الأنيقة فهي خالة العروس وحماتها في آنٍ جاءت للإشراف على تجهيز عروس وحيدها بنفسها وكلّ من في البيت يأتمر بأمرها ويقف عند الحدود التي ترسمها.. اليوم ستشرع في إعداد عقود العنبر وما أدراك ما العنبر !
جلست والملاوعة تعلو حاجبيها على جلد كبش وثير وقد رفعت من تنّورتها تقصّرها إلى ما فوق ركبتيها لتسهل حركتها وطوت رِجلا وأطلقت أخرى وهمّت بقصعة العود وغربال الشّعر لتشرع في غربلة كيلوغرام واحد من غبرة العنبر الفاحمة _ والعنبر يا سادة مادّةٌ عطريّة فوّاحة تُستخرج من حوت العنبر sperm whale وقد اكتشفه الأفارقة سنة1000ق.م ويعتبره الصّينيّون لُعاب التنّين استخدمته روما والشرق الأدنى مُستحضرًا للعطور والعقاقير أمّا آسيا فهو عندها من أفاويه الطّعام. والعنبر صنوف ثلاثةٌ بحسب الجودة فيكون الأبيض أرقاها فالبنّيّ ثمّ الأسود ويكون الأخير أكبر حجمًا، والعنبر كلّما جفّ تقلّص وكلّما تقلّص زادت قيمته..
يحتاج حوتُ العنبر قرابة الطنّ طعامًا يوميًّا علمًا وأنّ وزنه بين 35 و45 طنّا أمّا طوله فيتراوح بين 15 و18مترًا وغذاؤه من السّمك والحبابير وحين يتعسّر عليه هضم الحبّار ينشأ تشكّل العنبر الذي يغادر جسم الحوت بعد ذلك..
ويكثر العنبر على شواطئ جزر الباهاما وموزنبيق وأثيوبيا والصّومال وبرمودا وكاليدونيا الجديدة وأستراليا ونيوزلندا وسيريلانكا ومدغشقر والمالديف والفلبّين.. فبقاعه الأثيرة جنوبيّ سرّة الكرة الأرضية.
ويوجد بمنطقة بحر البلطيق ضربٌ آخر منه هو العنبر الحجريّ النّاتج عن تحجّر بقايا الأشجار منذ ملايين السّنين وهو يُعرف بحجر الكهرمان._ صبّت مفيدة دقيق العنبر في الغربال وطفقت تراقصه بين راحتيها ثمّ تدعك الدقيق في الغربال دعكا خفيفا قبل أن تعود إلى هزّه وطرق جنبتيه وإن هي فرغت أفرغت الغربال من شوائبه لتصبّ مسحوق نصف كيلوغرام من الصّندل تغربله ثمّ تصبّ عليهما مُصفّيةً سائل ما هرسته البارحة من سمغ ومقداره ثمان مائة غرام أنامتها في دافئ ماء الورد فكسب لونا عسليًّا تحرّكه ملعقةٌ في مصفاة معدنية ثمّ تضيف مهروسا مغربلا للمسك التقليدي وقالب متوسّط من مسك الغزال ومسك الورد وحفنة محلب وقبضة يد من عود القرنفل ومائة غرام عنبر خام ومائتي غرام من مطحون القماري وثلث قنّينة زيت روح العنبر ونصف قارورة من "الزّبد".
كاد يفوتني يا بنات آدم أن أحدّثكنّ عن المسك : والكلمة في أصلها دخيلة من الفارسية تعبيرًا عن المشموم وشاع استعمالها حتى ذكرت في القرآن. والمسك : طيبٌ وعطرٌ من مصدر حيوانيّ إذ يتكوّن في غدّة كيسية في بطن صنف من الظّباء يُدعى غزال المسك_ وهي في الذّكر منه دون الأنثى_ وحالما تكبر الغدّة يشعر الظبي برغبة ملحّة لحكّ بطنه على الصّخور ويجمّعها راصدوها من على صخور الجبال ويستقدم المسك أساسا من الهند والصّين والتّيبت وهو في الأخيرة أفضل فمراعي الظّباء هناك أطيب..
ويستخرج المسك أيضا من ثور المسك وسلحفاته وقطّ الزّياد وفأر المسك ونبات المسك Mimulus Cardinlus وثمّة أيضا مسك كيميائيّ يعتمد في صناعة العطور.. وعلاوة على أنّه مُثبّت للعطور فهو أيضا مستحضر طبّيّ ينفع لتطبيب علل كثيرة.. لكن لسنا ندري ما الذي جعله أبيض؟...
ثمّ تشمّر المرأة البضّة عن معصمين بعد خلع الخواتم والأساور الرنّانة وتبدأ بخلط المكوّنات وعليها أن تستبسل أمام هذه العطور القاهرة وهي تسعى إلى عجن ما بالمعجنة بعد أن تطمئنّ إلى تداخل كلّ المكوّنات حتّى يستويَ بين راحتيها عجين أسمر فتّان ستحفظه للرّاحة والكمون لليلة أو ليلتين وتكرّر بعد ذلك عجنه بعجّانة البسكويت التّقليدية حتى يتجانس المكوّن الأسمر وكي يكون سالكا يحسن مسده بمسحة زيت العنبر أو زيت الزّيتون وبعد هذه العجنة سيمرّ خليط العنبر إلى هجعة التّخمّر والكمون لمدّة 21 يوما وذلك بعيدا عن استنشاق الهواء. وتخزن السيدة مفيدة الخليط ولا يغادر سحنتها انشراح وهي تياهة بإعجاب الحاضرات ودهشتهنّ كيف لا وهي جرّاح العنبر الوحيد بالقرية! ...
تعود مفيدة إلى كنزها الأسمر وقد تضاعفت شحنات عبقه لتُشكّل ثمراته بعد أن وَذَرَته ليلة كاملة عرضة لهواء الغرفة ليتماسك المكوّن ويَقبل الخلق والتّشكيل هي اليوم واقفة إلى مصطبة المطبخ وقد أحضرت لوازم القطع والتّشكيل والنّقب فآنية المطبخ تفي بالحاجة وإن هي رغبت في قواطعه ومسوّياته فلها أن تقتنيها . ولها أن تتوسّل بأغطية قنّينات الدواء والمشروبات لقطع القسم الذي تريد تحويله إلى عقود وأساور ومشاميم وغيرها وتُعيد القسم المؤجّل حفظه إلى إناء حافظ تُحكم غلقه.
وتشرع سيّدة العنبر في حثّ النّسوة على مساعدتها في التشكيل فيستطبن الفكرة رغم وجلهنّ لكنّ العطور النفّاثة تغريهنّ بالمغامرة.. فتشكّل أيادي النسوة من العنبر مجسّمات للسّمك والخمسة وقرن الغزال تنقب معلّقاتها الإبر أمّا الشّكل الأكثر انتشارا فهو مثلّثات صغيرة قواعدها مُقعّرة تثقب الإبر أعلى هرمها باتّجاه البُطين المُقعّر وتتنوّع أشكال حبّات العنبر وتتفاوت أحجامها.. وبعد تركها تستنشق الهواء حتى تجفّ يتكفّل نظمها المعتني بإخراجها في عقود وسبح وأساور وتعليقات ورشقات تمتزج فيها الحبات السمراء في خيوطها الناظمة بالخرز وقطع الذّهب والفضّة ليتحصّل لدى مفيدة مصوغ عطر سيزين العروس زينة وكلّ قريباتها وقريبات عريسها فتُعقد حياتهما بالمسك والعنبر على لحظات حبّ تلمع له عيناهما ومناطق أمل يقبلان على تحقيقها فترفرف بجناحيهما لواعج الفرح والأماني....(بالرّفاء والبنين والعنبر)
Reactions

تعليقات