القائمة الرئيسية

الصفحات

الكبارة (2) - عمار التيمومي



الكبّارة 2:

(نهار "القرش" في الشطابرة)

لا يصل "بوقبرين" إلاّ قاصدها فهي منطقة عتيّة منيعة تقودك إليها ثنيّة لا تنفكّ ترهق مطِيّك وإن كان ميكانيكيًّا فلن تكفّ عن الصّعود بين الفينة والأخرى تتجاوز قرية سيدي سعد الجبلية الهادئة بعد أن ذلّلت الجبال من حولها ليطيب المقام لأهليها النّشطين ، فتصّاعد بك الطّريق وهي تقصد فجوةً سامقةً بين سفحين برنزيّين تطلّ على بركة ماء عظيمة هي محصّل ما جمعه سدّ سيدي سعد من منهمر القطر وجارف السّيل.. ممّا يحدو بالمركوب إلى استجماع قواه فتلهث الدّواب وتزمجر العربات ويتهالك المشاة وقد أعياهم تسلّق المسارب كيف لا وأنت تقصد قرية شمّاء كما جباه الفرسان لا تعرف الطّأطأةَ ولا السّجود لغير باريها..
تستقبلك وأنت تدخل القرية وقد استوى أديمُ الأرض بئرٌ قديمةٌ إلى يمينك وهي نسخة من نماذج كثيرة انتشرت بالبلاد التّونسية كلّما أفضت الجبال إلى سهل أو مرج ليجتمع حولها سكّان يقصدونها للمورد ماءً وخبرًا وأنسًا وعشقًا... منها ينطلق يوم الرّعاة والمسافرين يسقون دوابّهم وقطعانهم ويكون إيابهم عبرها إن ضحًى أو مساءً.. ترتفع البئر عن الأرض بمصطبة اسمنتية دائرية بأدراج وتتشابك على فوّهتها أضرع حديدية تثبّت بأعلاها جرّارات تدور عليها حبال الدّلاء والسّطول يجتهد الوارد أو الواردة في جذبها فوق سطح البئر يدًا بيد وقد علا اللّهاث واحمارّت الأكفّ وانتفخت الأوردةُ ويُصبّ الماء في جوابٍ ومساقيَ أو بالجِرار أو البراميل أو الصّهاريج تَنقل الماء إلى الدّور والحقول لتُسقى الحياة هنا وهناك وإن غابت الدّوابّ حضرت ظهور النّسوة لحمل الجرار ووثاقها ثابت بين الجبين ووسط الرّأس .. نعم الآبار سرّة الحياة بالأرياف والقرى...
وتقصد البئر غاسلة الصّوف والأدباش والخالة حليمة راصدة أخبار العليل والنّاجح وأنباء الشّراء والبيع والوافد والمسافر وتتعقّب خطوات الزوّار ولا يطمئنّ بالها إلاّ متى علمت سرّ البسباس وزرّاعه.. وتستشعر حركات العيون وما تكتمه من أسرار فتحيط إدراكًا بكلّ شاردة وواردة .. تزور كلّ الدّور وكلّ مسارح الاجتماع فلا يحُول أمامها حائل رغم علم النّاس بهوايتها المرضية فهم يستقبلونها هاشّين مستبشرين لما تتوفّر عليه من خفّة روح وميل للبهجة وحكي نوادر النّاس وأسرارهم فالكلّ يستأمنها ولسانها سيّار أبدا ولا حدود للجمه.. وفي غمرة عنايتها بحكايا النّاس تراها لا تأبه لأخبار زوجها ذاك الذي هجرها ورحل إلى العاصمة منذ سنوات وحاكت الألسن حوله روايات وروايات وهي لا تذكره إلاّ لاعنة له ولكلّ عائلته بأقذع النّعوت مشبّهة إيّاه بأحقر الحيوانات والزّواحف...
وحليمة هذه من أكثر النّاس تردّدا على مقام سيدي "بوقبرين" وجدرانه تحاكي الحليب بُيوضةً والصّدفات الجبلية لمعانا. كانت تجيل عينيها الفارغتين في المكان وتتفرّس الوجوه الزّائرة ولا تجد صعوبة في استدراجها إلى الحديث فتعرف في يسر كلّ ما ودّت معرفته وتتعالى قهقهاتها مع الغرباء وكأنّها عشيرتهم مذ زمن.. ولا تفوتها في حيّ الشطابرة مناسبة إلاّ وكانت الأسبق إليها وتفتكّ من أهل البيت صدر المكان فهي المفاوضة في الخطوبات ودليل البيع والشّراء ويظلّ النّاس يغتبطون لمرآها في الأعراس والمآتم ويُستأنس برأيها في الارتباط والطلاق وهي المرأة البروق فجرا ومَقيلا وليلا وكأنّ لا شؤون تنتظرها ولا نوم يُثقل جفنيها ولا الحنّاء تفارق كفّيها ولا الكحل ينزاح من عينيها النّجلاوين ولا الحلاوة والطّلاوة تخاصم لسانها إن هي حدّثت الرّجال ومع ذلك لا تجوس غيرة منها بقلوب الإناث فقد خبروا نقاءَ سيرتها ووفائها لزوجها الغريب الأطوار...
"غدًا أوّل أيّام شهر رمضان" هكذا أخبر المذياع وللمذياع سلطة في القرية فهو مصدر الأخبار وحوله يتحلّق الجميع للتمتّع بأنغام إسماعيل الحطّاب وبديعته "قافلة تسير" وغدا سيزداد الأنس بالمدائح والأذكار وحال الإفطار تضحك الأفواه التي يبّسها الصّوم من "الحاج كلوف" و"شناب" وأغاني الهادي السّملالي و محمد الجرّاري وتزهو الأنفس البسيطة.
أمّا اليوم فهو يوم "القرش" وعلى أرباب العائلات تدبّر شأن اللّحم وأكرمْ بطعم لحم ضأن هذي البراري! فخِرافها ترعى أعشاب الجبل الفوّاحة وتُشرف على مجرى الوادي الزّرود فلا هي تسمن سمنًا مخلاًّ ولا هي تهزل.. بل تظلّ نضرةً ريّانةً..
يشترك أهل الدوّار في عقائر تكفي حاجة عائلاتهم من اللّحم فتُستلّ الذّبائح من القطعان وسرعان ما ينحرها الفتية ويسلخونها وتقسّم أقساطا لقاء ثمن زهيد يبذلونه لأصحابها. وتفوح القدور المستعدّة لرمضان بطعام الكسكسي بلحم الضّأن ويسعد الصّبية بالأكل الشّهيّ أما المقبلون على الصّيام فينتقمون من جوع سيحلّ بهم غدا وتتبادل دور الشّطابرة الموحّدة الأسقف صحون الإكرام لكبار الأسر من الأجداد والجدّات وتنطبع على الوجوه غبطة الرّضا .. فرمضان كريم...

Reactions

تعليقات