القائمة الرئيسية

الصفحات

أكلةٌ بطعم ذاكرة الطّفولة - عمار التيمومي


(فطائر الغنّاي ساخنةًبالمُشكشك)
نشأَ فتى الخُبْنة الفارعُ عند سفح الجبل. فأورثه شيخ الأرض الحكيمُ كثيرًا من شموخه. الجيلاني بالعكرمي أسمر سُمرةَ جَبله ، أَفْرَعُ كرمح عنترة ،أجعد الشّعر فاحمه، يفترّ ثُغرُه عن فلجة أسرت بنات حوّاء ابتسامتها. وقد فلَجَت يداه الطّويلتان كرمًا ، وفلجت قائمتاه عَدْوًا ففَارسًا. كان مُحبّا للحياة ولذائذها لاخطوط حمراء أمامه. أقبل على كلّ أصناف النبيذ التي طالتها يدُه أو بلغت مسمعه.. جعل ببيته مضافةً خارجية يستقبل فيها ضيوفه ونُدمائه.. وخفض جناح الهوى لكلّ أنثى جميلة إذ هو ماهر في اقتناص الحسناوات خبير بشؤون العزف على قلوبهنّ فاليد اليمنى كريمة أمّا اليُسرى فمُتلطّفة مُربّتة. أمّا لسانه "فيغزل الحرير". نما رزقُه واتّسعت رقعة اهتماماته وكثرت إناثه.فلديه في كل مَشرب حبيبة. وله من كلّ صنف خليلةٌ.
رافقه الصّبيّ ذات أصيل ليلقى حبيبةً زرقاء العينين متينة الكفل ذهبية الشّعر الرَّسْل وهو مازال يُغمض عينيه كلّما ذكر ما حدث... تتردّد بعض حبيباته على بيته فتُكرم زوجته وفادتهنّ. فتعدن محمّلات بهدايا تُسعد أبناءهنّ وأزواج المرتبطات منهنّ.
ارتبط الأسمر الفارع ببنت "المعشعش" بعد أن فقد زوجته الأولى. وذاع صيته وشارك أعيان القيروان والسّاحل أنشطتهم التّجارية. فربح مالا كثيرا. ولم تكفّ يده عن العطاء ولا عينه عن الزّيغ ولا صوته عن الغناء:
جيبولي خالي ما نموتشا
جيبولي خالي ما نموتشا
جيبولي خالي ونشڨ الخلا
وآش باش يجرالي يا عذابيا
ما أكرم الجيلانيّ بأهله! وأِسْعِدْ به من رجل صفيٍّ لصحبه. لا تفارقه إلاّ متى دار به الدّجاج الأسود. فينفلت من عِقاله كثور العراك الإسبانيّ فلا يسلم منه من أسلم أو من كفر حتى يهدأ غرّا رحيمًا يأسف ويعتذر عن غليظ كلامه ولاذع صفاته للمغضوب عليه ولكلّ ما خفي من أجسام أمّه و خالته وعمّته وجدّته أحيانا. وحين تنقضي ثورتُه يستعيد بشاشتَه ويسترجع كلُّ من حوله صِلاتهم به.
كان من أوائل من خاض بالنّقل الرّيفي كما كان أوّل من اتّجر بالشوامي والزّيتون. وملك عربة وحاصدة وجرّارا ورابطة تبن، وأوّل من جمع بين الطّبل والفروسية... وله قدرة عجيبة على ترويض الأضداد، ومع ذلك يخشاه الأشرار ويحبّه الآخرون أمّا أفئدة النّسوة فمُشرعةٌ أبوابها بوجهه متى شاء، ممّا يثير غيرة لِداته من الذّكور. فيستفسرونه في مكر عن سرّه مع النّساء،ممّا يزيد غروره الخفيّ. فيفضحُه خُيلاؤه وتَيْهانه ، خاصّةً وهو عليمٌ بأن لا طلب يُردّ له ولا رغبةَ تصدُر شائحةً من ربّات الوُشُح المُهمَلة على الأعناق.. لا جلسةَ له إلاّ بصدر القوم. ولا كلمة له إلاّ وقد سكن لها الوُجودُ مُصيخًا ولا ضحكةَ إلاّ وهي تدغدغ صدر أنثى وتصنع غِيّا برأسها.
يستحثّ عربة الإيسيزي بالأحراش الكأداء. فتُصدر أزيزا يبلغ أذن زوجته حليمة فتهبّ من جلستها وتُهمل كلّ ما بعقلها وبيديها إليه هو. هي تذكر إكرامه إيّاها وتودّده إليها في لحظات الصّفاء وتستملح منه مناداتها بـ"بنت المعشعش" فما من امرأة سعيدة لا تستعذب نسبتها إلى أبيها.
تهمّ بالماء والصابون تتطهّر حتى وإن خرجت لتوّها من الحمّام. فلقاؤه يستوجب طقوسا. وكلّ رغباته أوامر ترتيبية لحياتها...
تفرغ من الاغتسال. فتمضي إلى بيت المؤونة تصبّ في المِعجنة مقدار دقيق وقرصة ملح وماءً للعجن. وتنطلق في سباق العجن. تقلب العجينة حينا وتقسو عليها بجمعيْ يديها. وتدعكها دعكًا حتّى تتماسك كعلك متين التّشابك يعسر الفصل بينه.حينها فقط تدرك أنّ عجينها جاهز. فتضجر واقفة وتسوّي قصعة العجن بين خِصرها الأهيف ويدها اليسرى. وتأخذ باليمنى كوز الزّيت ولكأنّها تخطفه في معركة الزّمن. وتمضي كالعادية صوب موقد الغنّاي (الطاجين). تضع الكوز والقصعة. وتُعدّل هيئة مَرَادِي الأثافيّ. وتقْدح نارا في كومة من هشيم أشيَبَ ينتشر لهيبها إلى الحطب الصّريع في الموقد. وتمسح وجه الغنّاي قبل أن تسوّيه على صخرات النّار. وقد شرست الشّمس، فأرسلت أشعّة قيظ تكاد تنقُب الرّأس. وتُولّي وجهها شِطر العجين تكمش منه قِطعا. وترقّق تفطيرها بمساعدة زيت الزّيتون. وتلقي بها في وجه الغنّاي بعد أن بسطتها على راحة يدها اليمنى لتسحب يدها وتواجه الفطيرة مصيرها-يومًا سيخلّى بيننا وبين النّار بيدٍ صَنَاعٍٍ إن نحن دأبنا على فرقة الدّقيق وغِيِّه-. انتهت السّيارة إلى ظلّ السّروة العظيمة. فهدأ هديرها لينزل منها رجل أسمر فارع.يُطأطئ ليأخذ بمحمل يديه أهمّ مقتنيات البيت. أمّا الفضلة، فموكول أمرها إلى الصّبية. يمرّر نظرته على موضعها شبه هامس: "السّلام". كم يُسعدها منه ذلك.فقد أدركت صفاء مزاجه.. تقلّب فطائرها على نار الغنّاي. ويتقلّب منها قلب على نار الوله..يعتقد كاتبنا أنّ الطّعام المُعدّ بحبّ يكون ألذّ.
تؤوب إلى مطبخها والفطائر في منديل يحفظها ويحفظ سُخونتها. لتُوقد نارَ موقدها تحت قِدرٍ نُحاسيٍّ تدلق به مقدار ثلاث ملاعق زيتًا وبعض ثوم مُهرْوش. وتقطّع بسكّين أربعَ حبّات طماطم وضعفها فُلفلا ونصفها بصلاً. فترتفع في الجوّ رائحة الأُدْم الفوّاحة وقد اكتوت قطع الخضر بوجه المِقلاة .فترأف بها الحليمة. فتصبّ عليها من إبريق رحمتها ماءً يُهيج تشتشات المقلاة تشكو صهدَها إلى من تصهد.
عليها أن تُقدّم طبقًا به صحن مشكشك الخضر وأعطاف الفطائر ومشرب فخّاريّ بقاعه أثر قطران العرعار الفوّاح وطبق تين عسليّ وعرجون عنب مُغر مشهده. ومع الطّبق ابتسامة حبّ صافٍ تُزيل أتعاب يوم عمل صيفيّ وتفتح شهية فيل....
Reactions

تعليقات