القائمة الرئيسية

الصفحات

تأملات

" الكلام من إختصاص المعرفة أما الإستماع فهو إمتياز الحكمة"
اوليفر هوملز

كانت نهاية الأسبوع فرصة سانحة لي من أجل لقاء صديقي وأستاذي في هذا المساء لإجراء نقاش أو إدارة حوار معه, يساعدني في كسر روتين العمل في الأسبوع المنصرم ويحطم جمود العقل الذي صنعه الروتين ويجدد من نشاطي الذهني.
ولكن للأسف في زيارتي له هذا اليوم والتي كنت متشوقاً لها لم أجده, فقد غادر منزله لإتمام بعض المشاغل والزيارات الأسرية والواجبات الإجتماعية, إلا أنه ترك لي مُغلفاً مغلقاً لا أعلم ما يحتويه, تركت منزله بعد إستلام ذلك المغلف الذي لم يُكتب عليه أي حرف, وقد لفَّتني الحيرة وشدني الشوق لمعرفة ما في داخله.
وكطبيعة البشر فإن أي مجهولٍ يكون غامضاً ومشوقاً وغريباً في نفس الوقت وعندما يصبح هذا المجهول معروفاً فقد تنتفي عنه صفة التشويق والغرابة, فقد كان وفي الحقيقة ما يزال القمر قصة عشق ورمز بُعد وجمال وبيئةً خصبةً لخيال العاشقين والولهين, كيف ولا, فقد شبَّه إبن النبيه محبوبته بالقمر, بقوله:
أمانا أيها القمر المطل
على جفنيك أسياف تسل
يزيد جمال وجهك كل يوم
ولي جسد يذوب ويضمحل
وترك إبن زريق البغدادي معشوقته التي أسماها بالقمر أمانة بعد رحيله, عندما قال:
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وشبه الباخرزي من يحب وقلبه بالقمر, عندما قال:
أطّلعتَ يا قمري على بصري
وجهـاً شَغلـتَ بحسنِـهِ نَظَري
ونزلتَ في قلبي ولا عجبٌ
فالقلبُ بعضُ منـازِل القَمَـرِ
لكن هذا القمر بكل المعاني الجميلة والغموض الذي أحاط به, ومع أول خطوة عليه سارت بها قدما رائد الفضاء نيل أرمسترونج تبين أنه لا يزيد عن كونه جرماً سماوياً مكون من الصخور والأتربة الجافة التي تخلو من الحياة.
وهذا حال العديد من الأمور الأخرى كالإلتهابات الجرثومية مثلاً فقبل أن يكتشف الإنسان ويعرف أنها تنتج من كائنات حية دقيقة لا تُرى بالعين المجردة, كان يعزو ذلك لأمور عدة إتسعها عقله فمرة يعزو ذلك للأرواح الشريرة ومرة يعزوها للسحر أو الشعوذة أو غضب الآلهة أو غيرها من الأسباب التي يمكن أن يصدقها العقل في ذلك الحين, وبعد إكتشاف المجهر ودراسات العديد من العلماء أصبح الإلتهاب الجرثومي شيئاً سهلاً يمكن علاجه بنوع من المضادات الحيوية وينتهي الأمر عند ذلك.
أخذتني أفكاري بين القمر الذي يسير معي ويرافقني في طريق عودتي إلى منزلي وبين محتويات هذا المغلف الذي تحمله يداي, وبين تحفز النفس وإنشغال العقل لمعرفة الشيء المجهول وغرابته وكيف يزول الجهل مع العلم والمعرفة.
على كل حال "قلت لنفسي" لم يزل سوى مسافة قصيرة حتى اصل منزلي, وسأرى ما في ذلك المغلف, ألم يقل طرفة بن العبد في معلقته:
ستُبدي لكَ الأيامُ ما كنتَ جاهلاً
ويأتِيكَ بالأخبارِ مَن لم تُزَوّد
ويَأتِيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تَبِعْ له
بَتاتاً، ولم تَضْرِبْ له وقْتَ مَوعد
فلِما السرعة والتسرع, فهي بضع دقائق لا أيام, فالخبر الذي أرجوه بين يداي فأنا لن أحتاج للإنتظار والترقب ولا للمواعيد المقيتة.
وصلت منزلي سريعاً, فتحت الباب الخارجي وسلمت على من أمامي في البيت ثم دخلت مباشرة إلى غرة الضيوف التي تحوي مكتبتي وطاولتي وأغلقت الباب ورائي كي لا يزعجني أحد, فتحت ذلك المغلف بشغف فوجدت في داخله ورقة مكتوب عليه بخط اليد:
عزيزي وبعد التحية والسلام:
"لعل مفهوم العقل والنفس وما يتعلق بهما من المفاهيم والمصطلحات التي ينطقها الجميع وتغيب عن العديد من الناس, مع أنها حضيت بالعديد من الدراسات ووجهات النظر والتحليل والتفسير, إلا أنني رغبت في وضع بعض الإجابات والتساؤلات المختصرة مكتوبة لكي تفكر بها وتكون قاعدة لحوارنا والحديث الذي سوف يدور بيننا في أوقات قادمة.
فلن ننسى أن لكل مصطلح معنى لغوي هو أصل المعنى الإصطلاحي, فالعقل يوازي في معناه الدماغ أي الجزء العضوي الرئيسي من الجهاز العصبي الموجود في الجمجمة, والذي يُعتبر العنصر الأهم من عناصر عملية التفكير, ولأن معنى العقل لغوياً هو المنع والإمساك والشد والتقييد والحجز ومنه العقال الذي تُربط به الناقة.
لذلك سُمي الدماغ عقلاً لأنه يضبط ويسيطر ويكبح جماح النفس وتصرفاتها, فكل من يحمل دماغاً فهو عاقل ويستثنى من ذلك المجنون, ومن هنا كان العقل هو مناط التكليف شرعاً والمجنون غير مكلف طبعاً لإفتقاره للدماغ سليم الوظائف.
لكن السؤال هنا ماهو التفكير والذكاء والإدراك والفهم والمعرفة والتعليم والثقافة والوعي والحكمة وما علاقة تلك الأمور بالعاقل وعقله؟.
أما مصطلح النفس فهو يوازي في معناه الجسد أو الذات Self وحقيقتها, أو هي ذات الشيء وعينه, بما يشمل دمه أي حياته وتصرفاته وردود أفعاله وكل الجسم بما يحتوي من أمور معنوية ومادية عضوية, وهي كيانه وأساس وجودة الظاهري والباطني.
إلا أن نفس الإنسان فيها من التفاوت والإختلاف الشيء الكثير وفيها من النوازع والرغبات والميول والشهوات ما هو متباين بين شخص وشخص, فالشخص والشخصية والنفس والنفسية مصطلحات قد يصعب التمييز بينها إلا أنها بقدر إرتباطها مع بعضها البعض فيها من الإختلاف ما يميزها.
لكن السؤال هنا ما علاقة المشاعر والأحاسيس والمباديء والقيم والحب والكره والذوق والوجدان والكرم بالنفس, وكيف تكون النفس لوامة ومطمئنة وكبيرة ولئيمة وغيرها من الصفات؟.
كذلك ماهي علاقة الروح بالنفس والجسد؟.
من منهما أقوى العقل أم النفس؟."
إنتهت الصفحة الأولى بهذا السؤال, ثم قَلَبتُ الورقة فوجدته قد كتب عليها:
"خلق الله الإنسان قبل عدة آلاف من السنين, وخلق الكون والطبيعة قبل ملايين السنين, أي قبل خلق الإنسان بكثير, وحين جاء الإنسان وجد أن الله هيأ له بيئة عيش ومكان سكن وإستقرار, بشكل لم يكن ليناسبه في باديء الأمر, أو أنه قد يكون ناسب حاجاته وغرائزه في ذلك الوقت.
ولأن الإنسان لم يكن هو الكائن الوحيد على وجه هذه الأرض بل قد يكون أقلها عدداً وأضعفها وجوداً, ولأن الله قد ميزه عن باقي المخلوقات بالإدراك أو العقل الذي هو إحدى وظائف الدماغ, ومن أجل كينونة وجوده التي هي إعمار الأرض وعبادة الخالق الذي أوجده,وبدأ الصراع بينه وبين محيطه.
فكان أن دعته حاجاته وغرائزه إلى إستخدام تفكيره من أجل الإستفادة من البيئة المحيطة به أو التخلص من الامور الضارة به وإيجاد الحلول للعديد من المشاكل التي واجهته وتواجهه لحد الآن, وبدأت تتكون في نفسه النوازع المختلفة حسب مايناسب مصلحته, فجمع المعلومات وتعرف إلى خصائص الأشياء المحيطة به وهو الذي حمل معه يوم الخلق مسميات هذه الأشياء ثم قام بربط هذه المعلومات من خلال التجربة والمعلومات السابقة ليحصل على نتائج مفيدة له.
ولأن المعرفة هي عملية تراكمية أصبح البحث عن كل جديد غاية وإكتشاف المجهول هواية,فهو لم يأت بشيء من العدم لكنه إكتشف خصائص الأشياء التي كانت مجهولة له أو قام بتقليد كائن أو عضو أو آليه موجودة أصلاً على وجه الأرض مع إضفاء بعض التحوير والتطوير عليها, فزادت بذلك حصيلة المعرفة وارتفع منسوب الذكاء لديه, وتناقلت الأجيال هذه المعرفة وزادت عليها.
فهل تم نقل هذه المعارف فقط بالتشافه والتعلم المباشر وغير المباشر أم أنها قد تم تخزينها في مكان ما في جسمه؟.
لقد بدأ وجود الإنسان بفردين وثم زاد ذلك إلى أن بلغ عدد سكان العالم الآن ما يزيد عن الخمسة مليارات شخص, لا يوجد منهم من يشبه الآخر بشكل كامل ومطلق,من حيث تركيب الجسم أو وظيفته أو من حيث الصفات المعنوية والسلوكية.
فهل لهذا الإختلاف والتفاوت الكبير علاقة بالجنسيين والتداخل في صفاتهم فقط أم أن هنالك مصادر اخرى سببت وساعدت في حدوث هذ التنوع الهائل؟."
إنتهت الرسالة هنا وتركت لدي تساؤلات كثيرة في نفسي أو في عقلي ... لا أدري.
أعَدتُ قِراءتها مرة أخرى لعلي أستوعب منها أكثر, مع أنها قصيرة لكنها زاخرة بالعديد من العناوين والمفردات والمترادفات وكل شيء.
لم أستطع النوم ليلتها فقد قمت من فراشي لأقرأها مرة أخرى.
شيء ما أيقضني مبكراً في يوم عطلتي, في الحقيقة كنت طوال الليل بين النائم والمستيقظ, صنعت لنفسي فنجاناً من القهوة ووضعت الكرسي أمام باب منزلي وحيداً وأعدت قرأتها مرة أخرى.
هل يكون العقل جزءاً من النفس أم أن النفس منفصلة ومتصلة به في آن واحد؟, وهل تكون النفس كبيرة أو كريمة بأمر من العقل؟ وهل التفكير العقلاني والمنطق يتم بمعزل عن النفس أو أن لها دور في ذلك؟
خطرت في بالي العديد من التساؤلات المحيرة, وأيقنت أن حوارنا في مساء هذا اليوم سوف يكون غنياً ومتشعباً وثرياً.
دخلت إلى مكتبتي وبدأت أفتش في كتبي المتنوعة وأتصفحها, فقد أجد بعض الإجابات هنا أو هناك.
في الحقيقة بعد عدة ساعات لا أدري أهي ثلاث أم أربع ساعات وجدت بعض التعاريف وبعض المعلومات البسيطة في بعض الكتب لكنها لم تكن مترابطة وشافية لتلك التساؤلات العميقة, لكنني بذلت جهدي لا بل تعبت, وتعبت عيوني من كثرة التركيز والبحث.
إكتفيت بذلك, وعدت لحياتي الطبيعية نوعاً ما, لم أنسى تلك الرسالة طوال اليوم فكلماتها وحروفها وتساؤلاتها لم تفارقني أبداً, رافقتني طوال اليوم ورافقت مخيلتي, جعلتني أترقب وأنتظر موعدي المسائي بشوق وشغف.

------------
إبراهيم علي محمود الطيار - الأردن
Reactions

تعليقات