القائمة الرئيسية

الصفحات


التاجر الفاشل

بدأ الفجر يفتح عينيه ببطء . استيقظ حربوشة , و مسك بعصاه ثم غادر منزله و بمجرد و لوجه إلى الشارع استنشق النسمات الباردة .
و نظر إلى الأفق البعيد . فلاحظ انسحاب النجوم الواحدة تلو الأخرى . وبدأت خيوط النور تتسلل لتطرد وحشة الظلام . و ما إن وصل حربوشة إلى مقر شركته , أسرع بفتح مكتبه .
جلس ثم رفع بصره الى النافذة التي تطل على البحر .الذي تجمعت الغيوم فوقه. تدفعها الريح . و سرعان ما تراكمت بعضها فوق بعض لتظهر السحب حبلي بالأمطار. أدار حربوشة نظره إلى جدارية مثبة خلف كرسيه حتى يعرف سر هذا التغير المفاجئ للطقس , انه أول أيام شهر أكتوبر فأدرك أن طقس الخريف لا يوثق به أبدا .
نهض حربوشة من مكانه و مررّ يده على مكتبة الذي لم يطرأ عليه أي تغيير منذ سنوات . فقد احتفظ بنقوشه و أشكاله , التي توحي بجودة خشبه . كما تؤرخ لفترة ... ازدهار شركته التي و صل صيتها إلى ما وراء البحار .
فتح خزانة صغيرة و سحب منها عدّة دفاتر , يكاد الغبار يغطي خطوطها . أزال بيده المرتعشة كل الأتربة المتراكمة. ثم أمسك أقدم دفتر فتحه و بدأ يقلب صفحاته . بدت السعادة على وجهه . يحدق طويلا دون أن يرفع رأسه. فهي تخبره عن ماضيه المشرق . قمة نجاحه في بناء شركته , كما تعود به إلى ربيع عمره . فقد ذاع صيت شركته داخل البلاد و خارجها . كانت شحنات الخشب لا تتعطل بالميناء و لا تخضع للتفتيش . فهي تشبه خلية النحل بكثرة نشاطها. تصنع الخشب و تصدر جلّه إلى الخارج. أغلق حربوشة الدفتر في صمت ثم خيم عليه الحزن و انهمرت من عيونه الدموع . إلا أنه أمسك بالدفتر الثاني و نظر إلى صفحاته. عثر فيها على بعض الأسماء التي كانت تشكل شلته المقربة إليه . جلبت الرياح انتباه , فهي تعصف بشدّة خارج المكتب . تدفع السحب أمامها , و جاء موج البحر يتصارع و يصفع صخور الشاطئ , و يسمع بين الحين و الحين أصواتنا تنادي بأخذ الحيطة و الحذر . لأن السيول تكاد تجرف كل من يعترض سبيلها . لذلك تسربت المياه إلى المكتب , أغلق الباب و بقى يتابعها من خلال النافذة .
ثم جلس و ثبت نظاراته فظهر وجهه الذي خطت فيه السنون، تجاعيد وغزى الشيب شعره، الذي تباهى به كثيرا فترة شبابه. من شدّة سواده فهو في تناغم مع لون بشرته البيضاء. كان يجلب انتباه من حوله. بلباسه الأنيق لديه سيارة فخمة، تثير دهشة كل من مرّ بجانبها. ثم عاد الى دفتره وانهمك في قراءة الأسماء من جديد و مكث يطرق على أبواب الزمن و اعادة لجظة من لجظات الماضي . و تذكر أفضل ما لديه من أصدقاء حين تعرف عليهم فترة شبابه فتطورت الأمور بسرعة بينهم . بفضلهم تمكن من مواجهة التحديات التي اعترضته في عمله، و تجاوز كل العراقيل، حتى أصبحت شركته من أشهر و أقوى الشركات ، برغم قلة عددهم. فكلما دخل حربوشة معارك الصفقات الا وفاز بها و ذلك يعود لدور أصدقائه، الذين يحسنون تشخيص الأمور
و الضرب في الهدف مباشرة دون أن يتركوا أثرا. نظرا لمكانتهم السياسية البارزة. كان حربوشة كلما عقد العزم على نيل أمرما، استعصى عليه، يجمع شلته في بيته يحتوي على غرفة جلوس بها ( بار صغير) تلتقي فيه أجود و أفضل الخمور. حتى يستمتعوا بأفضل اللحظات. فيحضر طاولة ضخمة، و يضع فوقها أطباق متنوعة من الأكل يتوسطها خروف مشوي، وبجانبها قوارير الخمرة. بعد الانتهاء من الأكل و الشرب.
تبدأ مداعبة الكؤوس و معها يفتح باب النقاش، فنتناقض الأراء تختلف من شخص الى آخر الا ان حربوشة تمترس في مدح السلطة، لذلك أطلق عليه أصدقائه اسم حربوشة. فهو يعيش حياته وبجمع الأموال و يشارك في الصفقات بلا رقيب، كان دائما يردد :
- لقد كنت ولازلت عند موقفي بأن السلطة لها دور هام و مفصلي في تطور البلاد و نموها و ازدهارها"
- سرعان ما ردّ عليه أحد شلته و هو يترنح و بيده كأس وسكي
- أنت لا تعلم شيئا عن واقعنا، البطالة تنخر جسم الشعب و الفساد أصبح واقعا مرّا، فقد أحكم قبضته على كل شيئ، أصبح كالعاصفة التي جعلت القارب يترنح و لم يستطع مجابهتها."
- نهض حربوشة من أريكته المصنوعة من أجود أنواع الجلد والخشب قد سقطت من يده كأس الخمرة نظر اليه ثم قال :"
- منذ مدة صدرت نصوص في الرائد الرسمي للبلاد، تنص على تخفيف وطأة الضرائب على رجال الأعمال الذين لهم شركات توريد وتصدير، و هذا في حدّ ذاته انجاز كبير يحسب للسلطة".
حينها أدار اليه صديقه نظره فقد كان منشغلا بالنظر عبد النافذة يرقب احدى الفتيات و هي تترنح في الشارع ثم قال له :"
- أنا أكبركم سنا، سأعبرلكم عن حلم، كنت قد أخفيته عن الجميع رغم أني زرت عدة بلدان و جبت شوارعها فقد خفق قلبي لما تعيشه من تطور و ازدهار، فقد ظل الحلم يراودني منذ زمن بعيد.
في تلك اللحظة تدخل حربوشة و قال :
- حلمك هو جمع المال حتى تعيش في رغد العيش.
رمقه بنظرة حادة ثم واصل حديثه
- أنت لديك هدف واحد و طموحك بسيط هو جمع المال ،
أمّا أنا اختلف عليكم جميعا بحكم انتمائي الى أرفع طبقة في المجتمع، لست من هواة جمع المال، منذ اصبحت أعي بالعالم حولي، كنت أحلم كبقية سائر الشعوب العربية، المفعمة بالأمل، مندفعة في مسالك التحرر من الاستعمار و اكتساب الاستقلال، حتى تعيش بخير و أمان في أوطانها بطموحات كبيرة الا أنها صدمت مع تطور الزمن بالتخلف و الانفراد بالسلطة، فصارت عاجزة عن معالجة، أكثر القضايا الحاحا منها ، تحرير الشعب الفلسطيني.
و هي غير قادرة على ارساء منظومة حكم في ظل مناخ الحرية و الدمقراطية و الاحتكام الى اشراك شعوبها. بل هي غير قادرة أصلا على استيعاب مثل هكذا مفاهيم لانها أساس البناء و التنمية. لذلك كانت يا حربوشة لك مكانة مرموقة رغم مستواك العلمي الهزيل و كنت أكثر الناس ظلما للطبقة الكادحة، و ذلك بعد قبولك بزواج ابنك من ابنة عم بلقاسم الذي كان يشتغل حارس في مصنعك رغم غطرسة ابنك حين اغتصبها، بل قمت باغوائهم بالمال مقابل الصمت على الجريمة .
ثم احتد النقاش بينهما الى أن وصل الى حدّ الشتائم.
فجأة دخلت سيدة، فتحولت الجلسة الى الهرج و المرج و الرقص على انغام الموسيقى الشرقية و بينما حربوشة منكب على دفتره، مبحر في ذكرياته.اذ ناداه أحدهم و هو متشبث بعمود الهاتف، فهب مسرعا نحو النافذة لينظر، فيوجد المياه يجرف سيارة، كانت تقف بجانب الطريق، فاندهش لقوة السيول، ثم عاد الى مكانه، جلس ومسك بأخر الدفاتر، شعر بانقباض شديد. فهو يمثل مرحلة السقوط المدوي لحربوشة، و لشركته التي أصابها العجز عن تسديد ديونها بل حتى مرتبات العمال، جراء دخوله في خصام مع أحد أصدقائه، حين تحصل على منصب الوزارة، ممّا سبب له هاته المتاعب، انهارت شركته و انهارت صحته.

 

Reactions

تعليقات