القائمة الرئيسية

الصفحات


إختفاء غامض

دخل الكاتب إلى مقهى الحي القديم، وطلب كعادته قهوته السوداء التي ارتشفها جرعة بعد جرعة، وهو يخط حكاية روايته الأخيرة.

 لقد تعود إرتياد مقهى الشعب منذ أربعينيات  القرن الماضي، وعاش داخلها أحداث تاريخية مهمة، فمن داخلها تابع أطوار الحرب العالمية الثانية، وتعاطف كباقي اليساريين مع الحلفاء رغم رأسماليتهم الظاهرة، كان يكره هتلر لأنه قتل كاتبه المفضل، وفوت عليه قراءة رواياته الشيقة.

في ركن مظلم، تفوح منه رائحة التبغ الرديئ وبرودة غير عادية تختزن ذكريات زبائن قضوا أخر أيامهم بالمقهى، كان الكاتب العجوز يجلس وحيداً، وعصاه أمامه شاهدة على أفول موهبته الأدبية.

صار مؤخراً يجد صعوبة في التعبير عن أحاسيس شخصياته، وفقد القدرة على السرد، والتحكم في أحداث قصته...
كان دائماً يربط هذه الأعراض بشيخوخته، مرض النسيان الذي بدأ يحكم قبضته عليه، لكن استفحال المرض مؤخراً، أقلقه كثيراً، لأنه كان يعول على ماتبقى لديه من مفردات لكتابة روايته الأخيرة، التي إختار لها عنوان غريب عن رواياته السابقة "رماد".

كثيراً ما وقف الكاتب أمام المرآة متباهياً بعنوان روايته المنتظرة، مستغرقاً في تفكيره، متسائلا عن ردود فعل النقاد، وكيف سيقرأون العنوان.
كان يبتسم ويتمتم:
رماد ...... نهاية نار تلظى.
رماد ...... انبعاث عنقاء جديدة.
وينهي تأمله بجملته الشهيرة التي كان يرددها أمام أصدقائه، كلما نقلوا له كلام ناقد حول رواياته،{ الناق طفيليّ، يقتات على فتات مائدة الأديب.}.

حاول أن ينهي العسر في التعبير الذي أصابه، فطلب قهوة سوداء أخرى، وتأمل وجوه زبائن المقهى. اكتشف وجوهاً جديدة بتسريحات شعر غريبة، ملابس عصرية، ساعات يدوية براقة، هواتف محمولة عجيبة، كائنات جديدة، لا تتبادل الكلام بينها، تبتسم إفتراضياً، تتجهم إفتراضياً...

عاد الكاتب العجوز من جديد إلى أوراقه البيضاء، تألم لمنظر الوجوه الجامدة التي لم تعره إنتباهاً، وهو الكاتب المشهور، الحاصل على جائزة نوبل في الأدب. فحاول أن يتراجع عن مشروع إتمام كتابة روايته الأخيرة، لكنّه تذكر قصة أرنست همنغواي الشيخ والبحر، بدأ يستعيد قصة الصياد سنتياغو  العجوز وإصراره القوي من أجل تحقيق هدفه، فوجد نغسه يقارن مهمته في كتابة روايته الأخيرة بمهمة صيد أكبر سمكة في خليج غولد ستريم، ويقارن علاقة مساعد الصياد بسنتياغو، بعلاقته مع أخر قرائه، نادل المقهى.

إنتظر خروج الزبائن من المقهى، فدعى النادل إلى ركنه وسأله:
منذ متى وأنت تتتظر قراءة روايتي الجديدة؟
رد عليه النادل: منذ أكثر من سنة أيها الكاتب المحترم.

الكاتب: لقد أخبرتك يا قارئي العزيز أني صرت عاجزاً عن إتمام القصة.

النادل: لكنني متيقن من قدرتك على إنهاء المهمة الأخيرة.

الكاتب: لقد صرت قاحلاً، سقطت مفرداتي كما سقطت أسناني، وأصابني عسر التعبير.

عاد النادل إلى عمله، فيما شرع الكاتب في تدوين أفكاره على الورقة البيضاء، فكتب أول فصل من الرواية،حيث وجد نفسه مع غروب شمس يوم صيفي في زقاق ضيق يدعى أزروݣ الذي كان القرويون يطلقونه على الباب الخلفي للدوار،المطل على الغابة، غالباً مايستعمله الرعاة مرتين في اليوم، صباحاً عندما يخروجون بقطعانهم إلى مراعي الغابة، ومساءً عند أوبتهم إلى الدوار. داخل نفس الفصل رأى راعياً يجري في إتجاه الدوار، ملوحاً بعصاه الطويلة، وبعض شيوخ الدوار يتبادلون نظرات الإستغراب. تحرك الكاتب داخل الفصل وإشرأب بعنقه يتحسس بأذنه الطويلة حوار الراعي مع الشيوخ، سمع في البداية أن كلب الراعي شوهد مع الذئب قبل إختفائه، وأضاف الرعاة  أن الكلب الذي تساقطت أسنانه هرب في إتجاه الغرب...
فجأة رأى نفسه في صورة حكيم يحدث الشيوخ قائلا: إن الكلب فقد أصدقائه، وجيله من الكلاب لذلك فضل الإختفاء، لأن الكلاب جبلت على الوفاء.

رتب الكاتب أوراقه وخرج من الباب الخلفي للمقهى مختفياً عن الأنظار، إلى أن تناقلت جرائد المدينة قصاصة الإختفاء الغامض للكاتب العجوز الحاصل على جائزة نوبل، فارتفعت مبيعات رواياته، وعاد شباب المقهى إلى قراءتها مجمعين على موهبة الكاتب الفذة في السرد.

عزالدين الزرويل


 

Reactions

تعليقات