القائمة الرئيسية

الصفحات

مقامة : خفاف الأزواد ما بين نُويْخِبة ونقــَّـاد - توفيق بن الطاهر صغير

مقامة : خفاف الأزواد ما بين نُويْخِبة ونقــَّـاد
,
دعاني جار تقيٌّ صدُوق، نعْرفُ نفرَته للخَالق، ولُطْفَهُ مع المخْلوق قالَ :
"تعالَ –عافاك الله- جارًا عزيزًا، لا هُنْتَ قدْرًا ولا عَدِمْتَ هزيزًا، لكَ في عهْدَتِي مُلحَة، ما كنتُ براويهَا لو لتؤوبَ إلىَ فلَحَة، أو إلى عَــقٍّ ولوْ كان بقدْر بَلحَة." ...
لبَّيْتُ دعْوَةَ جاري عنْ إغْمَاض، فالرَّجُلُ حكيمٌ ومَرْغَبُ المُعْتَاض، ما قامَ من مَجْلِسِهِ سَامِعٌ إلا أسَــرّهُ، ومَا قطعَ بأمْر إلا أمْضَاهُ علىَ الصِّدْق وأبَـرَّهُ، فجَلسْتُ
بأصْغَرَيَّ مُنْتَبهًا، وما صَدَرَ مِنِّي إلا صَغَرًا وَنكْهًا.. فأضَافَ : "حدَّثنِي ابْنُ عمّ لِي يَسْكُنُ إلىَ أديبة، مُرَبِّية فاضلة ذاتِ صَلاح وأريبَة، زَانَهَا الخُلقُ والتَّـدْبير، ووَهبَتْ حيِّزًا للدَّوَاةِ والتَّحْبير، قالَ: مَالتْ حرَمُنا على مُنتدَى افترَاضِي، تدُسُّ فيهِ ما تكتبُ دُونَ اعْتِراضِي، ولمَّا تكُنْ تكشِفْ عنْ جنس ولا صُورَة، فظلتْ حِقبَة على تخَفِّيهَا مَغمُورَة، تُغَازلُ بحَرْفِهَا القويم عيْنَ النَّاقدِ، ورَصْدَ القارئ الرَّاصِدِ، تَكنـُـفُهَا رِفْعَة الأغْرَاض والمَقاصِدِ."...
قال جاري: "قال ابنُ عمِّي: لبثتْ زوْجِي على دَرِّهَا الأدَبيِّ مُفِيقًــا، تُهَــرَاقُ نثــرًا دسِمًا وشِعْــرًا رَقِيقًا، لكنهَا مَا أعِيرَتْ انْتِبَاهًا، ومَا ظفَرَتْ بقرَاءَةٍ أوْ تقْويمٍ لِهَيَّـاهَا، في حينَ كانَت غيْرُهَا يُسَّابَقُ إلىَ شَعْثِهَا، ما إنْ تُطِـلُّ مُجَلجِلةً برَعْثِهَا، إذ تتقاطرُ الجبَاهُ إلىَ وَعْثِهَا، فيُمْدَحُ النَّبْضُ الهزيلُ كما البناءُ، ثـمَّ يُثنىَّ علىَ الذوْقِ وينْضَحُ الإطرَاء، بيْنَمَا أمُّ الوَلدِ تَكتُمُ غَيْظَهَا، وتُبَادِرُ اطِّرَادًا إلىَ مُضَاعَفَةِ فيْضِهَا، ثم وَزَّعَتْ على سِلاَل الإبْدَاع بيْضَهَا، علَّ بعض ظنِّهَا يَسْتكِين، لكنْ كمَا قيلَ "الشكُّ طريقٌ إلى اليقِينْ"، فقد تأكدَ لدَيْهَا رَوَاجُ سِياسَة الكيْل بمِكيَاليْن، وترَاءَى لهَا الأمْرُ جِبِلةً دَرَمَا، وأخْلَدَتِ المسْكينة إلى درْكها بَرَمًـا، فقرَّرْتُ طبْعًا أنْ أنْفُــرَ لهَا هبَّة وغُرْمًا." ...
تبسَّمَ جَاري عَريضًا ثمَّ تمْتـمَ : "داهٍ ابْنَ عمِّي، كُلُّ مَا كادَ أفْحَـمَ".. شدَّنِي أكثرَ هذا التَّعْلِيـق، فعدَّلتُ منْ جلْسَتِي لهْفَة لفصْلِ تَّشويق، ولمَّا أدْرَكَ محدثي مني الشَّغَفْ، أضَافَ مُتبَاهيًا :"خلفٌ منْ ظَهْر سَلَفْ .. كانَ عمِّي أيْضًا كثيرَ التُّحَفْ".. قلتُ :"وإلَامَ آلتِ الحَــالْ، هلْ كان ابنُ عمِّكَ صَاحِبَ كلِم ومَقَالْ ؟" ..
لمْ يحْفَلْ جَاري بالسُّؤالْ، بلْ ظلَّ علىَ انْفِراجَتِهِ وقال :" قالَ قريبي: ولمَّا فهمْتُ أنَّ "الدُّنيَا تُؤْخَذ غِلابًا"، عَمَدْتُ إلىَ صَفحَةِ "الفيسبوك" وسَجَّلتُ حِسَابًا.. اِخْترْتُ مِنَ أسْمَاءِ الإناثِ "هناء"، وأدرَجْتُ صُورَةً لفاتنةٍ حسْناءْ، ناهدٍ ونجْلاءْ، ولمْ أغفَلْ عنْ مُوجبَاتِ الإغْرَاءْ.. ثمَّ عبَرْتُ إلى مَرْحَلةِ الإضَافَات، في بيدِ الأدَبِ والمُنتديَات، وتدَاعَتِ العَصَائِبُ صَافَّاتْ، هُمْ بيْنَ دَالِ الدكتور، وألفِ الأستاذ الممْهُور، ومِيم المُهندِس النَّاشِر، ونون الناقدِ المَاهِـر. وحينَ تأكدْتُ أنَّ الأمْــرَ لمْ يُفْـــرَ، أنْبيْتُ زوْجَتِي أنْ انتظِري البُشْرَى... وفعلا، بدَأتُ أفتـِلُ الحَرْفَ فتلا وأبُثُّ، لا أدْري إنْ كانَ الناتجُ جُمَلا أمْ هوَ منَ الرَّفثْ، يَعْلمُ اللهُ أنيِّ مَا كُنتُ أضْمِرُ إلا العَبَثْ، كلامٌ لا لِحَاءَ فيه كمَا الحَشَفْ، قُـدَّ مِنْ نَشَازٍ فهو ضَفَفٌ قَشَفْ... وما رَمَيْتُ إذ رمَيْتُ، لكنَّ البُرْهَانَ أكدَيْتُ، وتزَاحَفَتْ جَحَافِلُ المُعَلقِين، يَرْفعُونَ منْ شَأن المَعِين، ويشْرَحُونَ خُبْءَ الكنِين، وطبْعًا، مَا كانَ ابْنُ عَمِّكَ بضَنِين: فقدْ سَايَرْتهُمْ الثناءَ والمَدِيحْ، وأفْلجْتُ خَوَاءَ خَرَاجِي بَيْن تصْريح وتلمِيحْ.. ثمَّ حلَّ أوَانُ الدَّرْدَشة والوصَالْ، وبتُّ ليْلِي بيْنَ شَاعِر وزَجَّالْ، أشْهَدُ تصَابيًا يَقُضُّ الأوْصَالْ، مِدَادُهُ غزَلٌ دَنِيءٌ وقبيحُ مَقَالْ، وكظمْتُ غيْظِي جَمْعًا للدَّلائِلِ بمِثقالْ، أرْفضُ المُشَافهَة –حَوْطا- وأفرضُ صيَاغة الأقوَال... صَارَ ابْنُ عمِّكَ –الفَحْلُ– مِغْنَاجًا، ولمْ أسْلَـمْ منْ فحْش الزِّنْدِيق ولا مِمَّنْ عُرِّفَ حَاجًّا، أغْلَبُهُمْ نَسِيَ حِبْري وألهَجَ بقوَامِي إلْهَاجًا.. سَاعَتهَا سَحَبْتُ المُوَالِيَة، وعَرَضْتُ كتابَاتِ زوْجتِي الغالية، فَطفَا اهتمَامُهُمْ بي أكثرَ وزَادَ الوَلهْ، وكنْتُ وزوْجَتِي نلعَنُ فِيهمْ النِّفَاقَ والسَّفهْ، حِينَ هبُّوا فجْأةً هبَّة رُغْبٍ وشَرَهْ، علىَ مَا نُضِدَ قبْلاً كأنهُمْ الآنَ يَرَوْنَهُ قبَلاَ، فخِيضَ فيهِ شرْحًا وتفْصِيلا، وأسْبَغَ عليْهِ نُحَاتُهُمْ تدْقيقًا وتعْدِيلا، ثمَّ جاءَتْ عرُوضُ النَّشْر بالمَجَّانْ، وطبْعًا قبلتُ نكايَة فِي المِجَّانْ، ولمْ يَطُل الأمْرُ حتىَّ صَدَرَ لِهَنَاءَ دِيوان."
أنْكرْتُ على جَاري مِثلَ هَذا الطرْح، ولمْ أسْتوْعِبْ إصْدَارَ نشْر بهَذا الشَّرْح، حِكايَة لا تخِيلُ إلى رَضِيع ولا إلىَ عَجُوز دَرْح.. وحينَ لمَحَ مِني الوجُومَ، حَلفَ مُضِيفِي بفَاطِر القمَر والنجُوم، أنهُ شَهدَ على مَا ينْضُو عن القِصَّةِ الذمُومَ. قلتُ: "كيْفَ ذاكَ؟.. فقدْ غُــمَّ عَليَّ الإدْرَاكُ.".. أجَابَ: "أبْشِــرْ جاري، جُعِلتُ فدَاكَ." ثمَّ
واصَلَ قائِلا :"لمْ أكنْ البَتة عَلِيمًا بمَا تقدَّمَ وصَارَ، حتى زارَنِي ابنُ عمِّي عَشِيًّا في الدَّار، وأبْلغَنِي بحَفْل قريبٍ لتوْقيـع إصْدَار، ثمَّ دعَانِي إليْهِ مُفاخَــرَةً، مُؤْذِنًا العَائلة بمِيلادِ شاعِرَةٍ.. لمْ تَغِبْ زوْجَتهُ عنْ الذِّهْن، وفهمْتُ أنهَا المَقْصُودةُ بالمَزْن، وسِرْتُ إلىَ الحَفْلِ سَاعَة قبْلَ أوَانِهِ، وجَلسْتُ بيْن رُكبَانِ الأدَب وفُرْسَانِهِ، أبْسُمُ لهذا وأحَيِّي تلك، وأجْري حَدِيثي مَجْرَى الفُلك. ثمَّ حَلَّ رَكبٌ بدَت عليه الوَجَاهَة، تصَدَّرَ المَشْهَدَ في وَقَارٍ ورَفاهَةٍ، دِينَتْ لهُمُ الكرَاسِي حَوْلَ المِنصَّة، ثمَّ جيء بكتُبٍ فرُصَّتْ أمَامَهُمْ رَصًّا، وقامَ خطِيبُهُمْ يُذِيعُ نصًّا، وهُنا بَدَأتُ تنْبَلِجُ القِصَّة... فمَا إنْ أتمَّ الخَطِيبُ فَاتِحَة قوْلٍ عَصْمَاءَ، عَجَّتْ بما لـذَّ وطابَ مِنَ الثناءِ، فتَقْريظُ مَنْ علىَ المِنَصَّةِ مِنْ أهْلِ لُغَةٍ وشُعَرَاءِ، حتىَّ نوديَ علىَ اِسْم "هناءْ"...
أطْرَقَ جَاري طويلا ثمَّ تَابَعَ: "شَككْتُ بَدْءًا في سَامِعَتيَّ وفي أمْـري، والتَفَتُّ صَوْبَ كِنَّتِنَا لأعْلَمَ ما يجْرِي، فإذا ابْنُ العَمِّ ينْطَلقُ إلىَ الصَّدْرِ. أوْمَأتُ لهُ بيَدِي رَمْعًا، فمَا نَبِهَ لِي نبَهًا ولا سَمْعًا، بلْ إنهُ ذَرَعَ قَاعَة الحَفْلِ ذرْعًا. ثمَّ سَحَبَ اللاقِطَ منْ مُشْرفِ التقْدِيم، وسَط دَهْشَتِنَا وبَهْتِ لُجْنةِ التكرِيم، ومَضَى يَحْزِقُ اللفْظَ حَزْقًا، يُلْزِقُ السَّبَّةَ بالمِشْتَمَةِ لَــزْقًا، إذْ مَا تَرَكَ نَبِيلا ولا عَزِقَا، فَوَقفْتُ مَشْدُوهًا لمَنْ خَبرْتُهُ أخَا جَهَالةٍ ثمَّ نَزقًا..
قال جاري: "خطبَ ابْنُ عمِّي لحْنًا: أيُّتُهَا "حَرَمُنَا المَصُونُ"، وأيُّهَا الآخرُون، وَاجِبُ تحِيَّتِكُمْ مَضْمُونْ، وأمُرُّ هَرْعًا إلى غوْرِ المَضْمُونْ." ..
ثمَّ أجْرَى على مَسَامِعِنا كلَّ الحِكايَة، وكنا صُغُوًّا كمَن يَسِيرُ بيْنَ وَهْدٍ وكُدَّايَة. نَضْحَكُ ونَبْأسُ حِينًا فحِينًا، ومَعَ كلِّ دَلِيلِ يُفْرِدُهُ نأنَسُ يَقِينًا، وكشَفَ عَنْ أسْمَاءِ خصُومِهِ قرينًا قرينًا. فاضْطرَبَ من ذُكِرَ ورَامَ الانسِحَابَ، لكن ابْنَ عمِّي أوْمَأ لِي أنْ أقِفَ علىَ البَاب، لأمْنَعَ خُرُوجَهُمْ، ووَاصَلَ هُو يدُكُّ بُرُوجَهُمْ. فذكـَّـرَ قائلا :"أما وإنَّ الترْبيتَ علىَ الموْهِبَةِ أمْرٌ طبيعِيٌ، وما خِلتُ مَقامَكُمْ مَرْمًى لنُصْحِي وتقريعِي، فإنيِّ أنْشِدُكمْ علىَ مَذهَبِ "جمَال الصليعِي"، إذ يقُولُ :
"علّمته البيداءُ أنْ ليْسَ يرْجـُــو**مِنْ قِفار النّفوس شيْئًا وقـُــورًا"
ألا فإنَّ أرْضَكمْ بَاتتْ بُورًا، وغارَتْ وجَاهتُكُمْ في القِيع غُؤُورًا.... أفَمَا اكتفيْتُمْ سُحْتًا وزُورًا ؟؟.".
قال جاري : "غَمَزَ لِي ابْنُ العَمِّ فأفسَحْتُ لهُمْ، ثمَّ عُدْتُ إلى مَرْتعِي أضْحَكُ مِلْءَ الفَم."
** 06 نوفمبر 2013
توفيق بن الطاهر صغير **
Reactions

تعليقات