القائمة الرئيسية

الصفحات


ألوذ بقبلة
في ذلك المساء الشّتويّ الغائم، كنت أحثّ الخطى باتّجاه منزلنا المنتصب خلف الرّبوة، أسابق إليه النّسمات الباردة، فيسبقني شوقي إليك... تكاد وجنتاي تتجمّدان من الصّقيع، تتصاعد أنفاسي و تتسارع، تنفلت دمعة من عينيّ فتشقّ خدّي إلى عنقي... شتاء قريتي قاس، لكنّني أحبّه رغم ذلك... فكلّ مواسمي كانت شتاء ... أمسك في يدي اليمنى حقيبتي، وباليسرى بطاقة أعدادي... نسخة من البطاقة الأصليّة، حصلت عليها من المعهد بعد أن شرحت للقيّم صديقي الّذي كان يحبّني حاجتي إليها، فأقرّ لي ذلك الاستثناء... عندما وصلت أعلى الرّبوة، بدا لي منزلنا من بعيد، فتهلّلت وأنا أراه....و ذهب خيالي إليك... و رأيتك تتفحّص بإمعان أعدادي مادّة مادّة، و تطيل تقييم أعدادي في الموّاد الأدبيّة، لأنّك تعلم أنّني أشكو ضعفا فيها، و رأيتك ترفع راحتيك لتداعب شعري بحنوّ، و تطبع القبلات على وجنتيّ... و تقول:
-"أنا فخور بك، با بنيّ!."
مازلت أذكر تلك النّظرة الّتي حدجتني بها عندما تسلّمت بطاقة أعدادي الأخيرة... كنت عاجزا عن معاتبتي، و كانت نظرتك مزيجا من الحزن والعجز والعتاب... أكنت تخشى أن أكون قد ملت عن طريق طلب العلم؟ أم أنّ إدراكي سنّ المراهقة قد غيّر طباعي، فثرت على قوانين المدرسة ونواميسها الصّارمة؟... وضعت البطاقة جانبا، وأطرقت... هل كنت تفكّر بأنّني قد خذلتك؟ لم أستطع أن أتحمّل وأنا طفلك الأثير تلك النّظرة وذلك الحزن في عينيك، فأنت حبيبي الّذي أنهكه المرض...
قلت لك:
- "لا تغضب يا حبيبي! سأضاعف الجهد في المرّة القادمة... و سأرضيك ".
بقيت مطرقا صامتا مفكّرا كتمثال إغريقيّ يجسّد فيلسوفا و قد كنت كذلك... فأدركت أنّني قد أحزنتك أكثر ممّا تطيق، وأنت المحبّ للعلم و طلبه... "هاهي بطاقتي، يا أبي ! انظر! نتائجي مشرّفة ... مجلس القسم أثنى على مجهودي و منحني مرتبة الشّرف... أترى يا حبيبي؟ لم أخذلك و لن أفعل ذلك؟... سأكون كما تحبّ قبس روحك متوهّجا بنور العلم... سأعيش به أميرا ( برنس) كما يحلو لك أن تعبّر بفرنسيّة مطبوعة باللّهجة التونسيّة الحبيبة.".. وأجد نفسي في شرودي مبتسما راضيا منتشيا وأنا أتخيّل مقدار سرورك، و تلك البهجة الّتى ستعلو محياك... هاهو المنزل يقترب، أو لعلّي شعرت أنّه يركض نحوي كما أركض نحوه ،ها أنا أقترب و تقترب فرحتي أكثر ...
كنت في غمرة انتشائي، لمّا رأيت حشدا غفيرا من القرويّين حول منزلنا... ما الخطب؟ أيّ أخبار يخفي ذلك الحشد؟... كلّما اقتربت أكثر تبيّنت الوجوه... أغلبهم أقاربي ! ما الّذي جاء بهم جميعا؟... أتراك يا حبيبي قد شفيت و ردّت عليك صحّتك فجاؤوا مهنّئين؟؟! ...
على عتبة حوشنا تأمّلت وجوههم... كانوا جميعا واجمين... تكاد نظراتهم المشفقة تمتهن إنسانيّتي، فقد كنت أكره أن يشفق النّاس عليّ... هكذا علّمتني... يا أبي !... كلماتك تتردّد في ذهني دائما: " إيّاك أن تكون محلّ شفقة... الموت أهون من الذلّ ،يا بنيّ! ... كن عزيزا كريما ولا تجعل لقلوب النّاس ولا لجيوبهم على روحك سبيلا"...
تقدّمت وجلا مثقل الخطى... لا أحد كلّمني... تناهى إلى مسمعي صوت نشيج خافت...كلّ نساء القرية جالسات وسط الحوش يذرفن دموعا صامتة... همّت إحدى قريباتي بأن ترفع صوتها بالعويل، فأثنيتها عن ذلك ...
داخل غرفتك، ألفيت أعمامي و عمّاتي و قد تجمّعوا حولك واجمين. كنت مسجّى، مغطّى بلحاف أبيض... صدرك يرتفع و ينزل، أنفاسك طويلة ومتقطّعة، عيناك مغمضتان و بشرتك شاحبة، فمك مفتوح، يرغي في صمت، وأمّي تجلس عند رأسك تسقيك الماء قطرات... تأخذ قطعة القطن، تنقعها في الماء البارد، ثمّ تعصرها في فيك ...
جلست عند رأسك، أزلت مخدّتك، ووضعت فخذي مكانها ... لم يمانع أحد... فقد كنت ابنك الأثير . مع نفسك الأخير، شعرت بنسمة باردة تمرّ على وجهي، تداعب وجنتيّ، و تتخلّل شعري، ورائحة زكيّة تعمّ الغرفة... عجبا! كيف يكون للموت هذه الرّائحة... أتراها روحك قد أشفقت على طفولتي ... فكان موتها عطرا... أم أنّها كانت تدري أنّني أحمل لها أخبارا تسعدها، فقبّلت وجنتي، و داعبت شعري كما كنت تفعل دائما حين تكون راضيا عنّي فخورا بي ... أو لعلّها كانت تودّعني على طريقتها، بقبلة أخيرة و مداعبة أخيرة و برائحة أبوّتك الزكيّة ... لم تورثني شيئا غير تلك القبلة، و تلك الرائحة …و ها أنا ألوذ بهما كلّما آلمتني خطوب الحياة... وما أكثر خطوبها ! ...
--------
 رياض عبد الرزاق جراد
متابعة: سهام بن حمودة
Reactions

تعليقات