القائمة الرئيسية

الصفحات

الرفاهية البيضاء - د. هالة الهذيلي بن حمودة


الرفاهية البيضاء

                      

د. هالة الهذيلي بن حمودة

احترت بشدة ملفتة، وللمرّة الالف بعد الاربعون، في اختياراتي الأولى لعناوين احلامي الواقعية المزدحمة. ولم يسعفني الوقت هذه الأيام لكي أفرغ الشحنة المتكدّسة في سجلاّت عقلي الباطني الذي يتودّدني كتابة وثرثرة. أصبح قلبي فرحا للغاية، ورغم ما يمرّ به وعليه، فان الشوق للنبض بات امرا محتوما مقدرا. فانا اشتقت لغياب فرص الراحة المؤكدة. وفي غيابك تتناسج الاسوار المرصّعة بخيوط الحرير الرفيع الأصفر الجميل. كم أحب جمال هذا الأبيض المصفّر المشع. الاصفر يشبهني جدا بزرقته الحالمة، واشعاعه يسعني بشمسه الوافرة، وطاقته تقحمني في عوالم السماء قبل الأرض، فهو لون الحياة بحرارته الممزوجة باحتراق الهواء واندثار فرص الغياب وانحباس الضوء وامتلاء الكون بجرعات من البهاء فكل بنفسج الأصفر يسكن السماء وما رحبت، وكل غرور التواضع ينبته بصيص نور في حنايا النوافذ المغلقة هذا المساء، وكل وهج الأبيض يرفقه لحن الوفاء والامتنان.
يعيش العالم زمن الحيطة والوقاية والجمال، فعدت انظر لتفاصيل وجهي التي تناسيتها منذ الولادة المنتظرة، لا اعرفني كيف أصبحت وكيف امسيت، وانا كلى احتمال وامل الى حين. انظر من نافذة الغرفة انظر شاردة متيقظة، لقد كانت ليلة النصف من شعبان كل القلوب المؤمنة تدعو من الله كل الرضا والمغفرة والرزق والحياة. انه قمر منير، منير جدا.  لم يسعني الترقب من النافذة فعزمت الخروج في هذه الساعات المتأخرة، اتلصص خارج اسوار البيت، مشرئبة العنق، لكي ادعو الله وانا في رحاب السماء أبصرها وانتظر الراحة القلبية واستجدي حبا وفيرا ضمن كل معاني الرزق المتجددة. انها ليلة متلألئة بنجوم صغيرة لماّعة فيها بصيص من الهيام والجمال والامل الرحيم. بعيدا عن الشحناء والوان الكره والتعب الكبير، خرجت برداء النوم الأسود المرقط بالأزهار الوردية المتفتحة، وكلي هناك هناك بعيد، اتلمس الحياة لنبض امي المعتكفة في صلواتها وايمانها وروحانياتها. امي ملاذ الى التقوى والحضن الطيب، متصالحة جدا مع نفسها فلم تدّخر لونا ولا دعوة ولا املا الا وانعمت به علينا في محنتنا وشدتنا. كم من النفوس مثلي تستذكر دعوة لامها وكم هي متعددة تلك القلوب الباكية في هذه الساعات الفارقة، على فقدان أمها ونبضها وحنانها وكيانها، وكم من قلوب متسلّطة متجبّرة متكلسة، جوفاء قانطة من الرحمة والمغفرة والجبر بالخواطر الشاردة... هذا القلب هبة متفتحة.
 كنت التمس لأمي اعذارا لحزمها الشديد، وجملة قواعد التربية الصالحة والعفو عند المعصية، امي افق لا ينضب وحكمة سارية البهاء...لقد اوكدتني بان أقوم بالصلاة والدعاء في هذه الليلة المباركة، وامطرتني بأدعية من الحبّ والستر والحياة، كما اوصتني بنفسي وذريتي ومالي واهلي وصلة الرحم، ودثّرتني بحبها الملتهب في صدري دائما وابدا. تذكرت شريطا من احداث الماضي القريب، وزمرة جهودها الكبيرة لكي تصنع منا جيلا خلوقا متعلما، وان تنسج صورة بهية لنا. الموت يجعلنا اقوياء، أقوياء جدا والفقد يشحنك بحلة من البهاء، لكي توقن في باطنك اسوة القدرة وعصبة التحدي والتفنن في الحياة. لله ما اخذ ولله ما تبقى، ففي مسرح الموت أسئلة متعبة من متاهة البقاء والفناء وحيرة وجودية محتالة، وتحسّست في لحظات ضعفها انها جدّ خرقاء. فلما نموت يوما؟ وكيف نستعد للموت واطالة الحياة؟  ان نستشعر ذبذبات حزن الفناء والتوجّس من غيوم الغد وحيرة اسلبة العيش واستدامة التنفس واستنشاق الهواء، هو بذاته نبض صلوات كل فجر لأصحاب الطقوس الصادقة المحتملة والمحتمية باعتكاف حسن الظن والخاتمة في المساء.
حاولت مرارا ان اكتب، لكن الحرف تمرد بلطف في هذه الليلة المقمرة، فاستنجدت بتحديات الطاقة وافراغ ما يسكن البال من سوء النفس وتثبيت هدف التمعن في النعيم وتحسينه للمصير. لم تكن تفهم نوعية الطاقة التي بداخلها، فقط كانت تستشعر به قريب جدا، لا بل في كلّها المتعب الوحيد. فلم تنهمر امطار عيونها البتة، فقط ابتسمت بترف الجمال الخفي الذي ينمو على اساور ملامحها. ملامحها المعقدة المتوهجة حياة رغم تفاصيل التجربة المفخخة، تأخذها اليك دال ومدلول. تذكرت صاحبة الرداء المزهر انحباس الدمع منذ زمن بعيد، فكيف احترقت دموعها الباطنية وكيف لبست في ذلك اليوم الفستان الأسود الطويل وكيف تمت كل مراسم الوداع الأخير وكيف امتلئ فناء البيت بكل ذلك الخلق الرهيب وكيف انسكبت دموع الرجال والنساء بعمق وأنين وكيف تم اقتناء اللحاف الأبيض الطويل ورائحة العنبر والبخور وكيف شربنا القهوة السوداء بدون سكر ولا هيل، وكيف انطفأت شمعة البيت في رحاب الأربعين؟
 لم تشعر بعد ذلك اليتم و الفقد بغياب أحد، لم تتحمس لفرحة لقاء بعد خذلان القدر لهم، لقد كتبت بدموعها أسئلة تجادل فيها الحدث وتحدّت حينها غليان قلبها بالدموع والقلم. كتبت له كل تفاصيل يومهم بعده، وحدثت قبره في كل موسم عن هجرة أبناء الحومة وعن ضيق الحال واسعدته بنجاحهم وفلاحهم وبشرته بكل جديدهم. لم تجرء، نفسا، على نسيانه، فهو يعيش دوما في خواطرها المتحمسة وفي نجاحاتها المرتقبة وفي انكساراتها المتعددة وفي مقلتيها المنفتحة وفي واحضانها المتكلسة. ارغب يوما في البكاء بعنف الضحكة الحنون وارغب ان أمزق سكون الخاطر المفقود. صرخة مانش اللونية، صرخة شمسية لا تدرك قمر الليل الاخاذ. يا لها من ليلة جدّ مقمرة محرقة بإشعاع اغلال ذكرياتها الموجعة وكم هي محتاجة لسكينة الروح وعناقه الطويل المحتمل. لقد كبرت جدا وامتلات أكثر وتحملت رحبا من الحاجة البسيطة المختلطة المختفية الواضحة المتعمدة واللا واعية والمنبثقة غفلة وتطيّرا من كل ضلال مبين. له الرحمة والغفران ولك الحب والوجدان. فلم كل هذا الحب الساكن فينا يا رحمان؟ وكم نحن بحاجة لذلك العناق الطويل؟ عناق يشفى غياب الأحبة وفقد امل اللقاء الموعود، لكننا نشفى بهم ولهم، فنذكر ابتسامة الحياة من جديد فاعترف في صمتي وفي سري بحبه الساكن فيّ الى يوم الدين.
القمر منير جدا جدا، ومن ينتظر رؤياه لا يكون سوى مشتاق له، وللفرج الجديد.  لقد اصابني الملل من تكرار وصف الحدث وتكرار الكلمة وتكرار الصباحات المتلبدة بكلمات الامل الرقيق.  فقط ما يحيرني اليوم هو كيف أجد الدقيق الأبيض غدا؟ بحثت في كل المحلات ولم يعترضني ولو غرام واحد من الطحين الرفيع رغم ان الدولة وفرت لشعبها كل أنواع الطحين الرقيق والمتوسط والرفيع. فماذا نحن فاعلون؟
انها ليلة النصف من شعبان ورحلة الدعاء للفرد والإسلام بان رمضان قد أوشك على القدوم، والحال يا خالقي لا يبشرنا بوضوح وانفراج قدر الامكان. يعيش هذه الليلة كل الشعب حالة من الجنون والسؤال عن القدر. لقد بكى الوزير، واسترسلت محطات الخطاب السمعي البصري في تحليل اللحظات الباكية وتدقيق وتعبير وتشكيك في صدق الاحاسيس او هي خداع ووعيد. وفي كل هذا الشهيق والزفير من وراء كمامة الطبيب، يخرج الرقيب بشتى أنواع التهديد بتطبيق قوانين الحجر والتمديد في حالات الاعتكاف والحث على اكثار الصلاة والتعقيم.
يصرخ المواطن الفقير اين يمكننا اشتراء حفنة من الدقيق الأبيض الرفيع؟ الأبيض لون اللا لون، الأبيض ضوء الانجلاء من العتمة والدقيق قد تبخر من مخازن المغازة المتبقية في صفوف تجار الاسواق المجاورة. الكل مفتون بضرورة الدقيق الأبيض المحسوب على دعم الدولة الموقرة، وكل الشعب المعوز يستجدي الدنانير المخلدة كمنحة للكرامة المنسلخة. لقد تولدت من رحابنا الثورة المخترقة لكل نظم الخضوع المنكسرة وصاح الشعب ان لا كرامة ولاحياة الا في زمن الحرية والتعبير والخروج عن مواكب الاختناق المحتّمة. مات الرئيس وعاش رئيس ومات رئيس وانتخب رئيس وسجّل التاريخ لحظة ازلية لاكتسابنا شرف تشفير ثورة انارة مشعل الديمقراطية المرفّهة. لقد ارتفعت النداءات للصلاة، وهو الحي القيوم فلا تغلق الصفحة ولا تمضي في سفور سأصلي اللحظة واعود بكل احتياجاتي الرهيبة لإفراغ كتل الكلمات المكتوبة. ...
لا أجد من الوقت لخلوتي الإبداعية ولأنفاس كلماتي السريالية الا ما اسرقه عنوة في النصف الأخير من الليل الجميل. يمضي النهار سريعا مثقلا بكل متطلبات الحياة والترشيد والتعقيم والطبخ والبحث عن نقط بيع الدقيق الأبيض الرفيع. وينسدل الليل مسرعا مسرعا جدا فلا راحة تسكنه ولا تعب يهجر النهار ويملأه. فكيف نوجد عصافير النوم لهذا الطفل الصغير المتحرك الراقص المتحمس للحرية المقيدة فلا مدارس ولا عقوبات ولا دروس ولا لمج، فقط صديقه رشاد الذي يتجالس معه وقت الراحة هو أكثر ما افتقده في رحلة الكورينا المدمرة للأنفس الضعيفة المتنمرة. أيها الليل أي قصص سأحيكها له ونحن على اريكة ما قبل النوم، اغنيه في ارشاد الام المتعقلة: نم يا حبيبي لم يعد هنالك وقت بالمرة، فيضحك مستهزئا بكل جوارحه المنفتحة، لماذا تتسارعين مع الوقت يا ماما غدا لا مدارس مفتوحة ولا معلمة، انها الكورونا يا عزيزتي، انسيتي ذلك لا بد ان نبقى بالبيت وننتظر رحيل الوباء. يا لطفلي الجميل، كم تشبعتم بهذا الحدث السقيم. انهم على قمة الذكاء والاحساس والخوف والتحدي برهافة الموقف المحتم، ويمضون بطفولة قلبهم نحو اشباع لا منتهي من اللعب والمرح الموتّر.
 غدا ستنجلي كل القيود يا اميري الصغير، وسنبحر في سفن من البلور لجزيرة من اللؤلؤ الكبير، وسنبحث عن حسناء الاثير وسأحملك حتما، حلما ابيض نقي وسنزور برج العرب الطويل ونسبح في مطرح المحبة المنتظرة. نجحت المهمة بسلام، عمّ الهدوء الان، وقد اطفات ضوء المصباح الصغير، تسللت من جواره على أطراف اصابعي، ونثرت عليه كل دعواتي بالستر والصحة والبقاء الحليم. غدا سأبحث منذ الصباح في كل مواقع الاحتمالات عن رهافة الأبيض الحزين، في وطن اخضر مرير، علني اطبخ رقائق الكعك بالسمن والسكر الأسمر اللذيذ، فبناتها تهوى اكل الكعك وشرب العصير.
"سأنتحل شخصيتك واضمني وأحبني واحكيلي " عن لحن الزمان وتضاريس الجسم وما فعله رغيف الخبز في أسابيع الحجز المنزلي وماكان. وما قلت لك من وقتها "وانا على سجادتي ادعي لربي عسى الله يقربك والله كريم ومستعان حتى ولوما صرت لي سأقف امام مرايتي وانتحل شخصيتي واشكي لك وما فعله بي الزمان...علقتني خليتها باللون الأبيض رايتي... " تدندن بصوتها الرنان مع الحان إذاعة الوطن في ذلك المكان، وهي تجوب اروقة الغرفة المنفتحة على كواليس الباطن المترنحة، سنتحاكى ونتجادل ونتعارف الواحد منا على أنفسنا المستجدة في الهنا والان، وسنتحمّس للذات وبالذات، وسنكتب عقدا اجتماعيا بعد الازمة المنصرمة بعد كشف غشاوة الضيق المتجددة. انه الأبيض الرقيق الدقيق الرهيف الممتد في فساتين الفرح، وفي اكواب من حليب كامل الدسم، وفي تضاريس "الباروق" ووجوه العرائس الملطخة به والمعطرة بماء الورد والنرد والبنفسج المنثور في سحابة من الفكر والشعر والمرح. فكيف أنسي شوقي للرفيق الأبيض في ليالي القمر ولحظات الارتجال والحضر؟ ولما ارتفعت أسعار الخضر؟ "فلا تبارح تجمّل بالصبر وانتظر". هناك تنتظر "الانا" رهافة الأبيض العميق علّها تنشد في اليوم الأخضر المزهر الرصين صلوات الشكر والفرح الدفين. انني ابحث عن صفوة اللا لون في ألوان كل السماء، فلا شيء يحركني هذه الليلة سوى فقرات الخوف من التعود والراحة في القلق والملل.
 غيّرت ملابسي مجددا، فالتوجس وقاية وحيطة وتيقظ، فاتبع "قلبك دوما فسوف يأخذك الى حيث ترغب اليه واسمح لنفسك بالانجراف بصمت وبقوة صوب ما تحب." وضللت منجرفة بكل ما يحمله الصخب من هدوء محتمل، وما يفرزه هذا المزاج العنيد المعلّب المتقلّب الرصين. سأكتب غدا لغة من الصمت الأبيض الرهيف المحترق، وسنترشف عصائر التفكير ومباهج الحب في زمن الاحتراز المؤكد، وسأطبخ رغيف من الدقيق الأبيض المختلف، وسأنشر صوره على صفحات التحدي المتعدد بشغف، وسأنتظر كعادتي اعدادا وفيرة من الاعجاب والمدح والاستفهامات المحيرة والاجابة عنها بمضض، فمن اين اشتريت الدقيق الرفيع المعتمد.... مددت من اوراقي المبعثرة، صفحة بيضاء مرقّمة علنّي احتلها لونا في الساعات القادمة. فانتظرني...



Reactions

تعليقات