القائمة الرئيسية

الصفحات


جلبتني ونحن في أنهج المدينة العتيقة أغنية تنبعث من دكان أقمشة.. جذبت رفيقة الحياة بلطف كي ندخل الدكان.. كانت الأغنية تبدأ بـ«الأوف» الشآمية وبموال: «.. تغير هوانا وسعر كل شيء غِلِي وخَسه زارعها ما عادت إِلِيّ». أدركت رفيقتي أن ما أدخلني إلى الدكان ليس شراء الأقمشة، فمن وقت طويل لم نشتر منه شبرا.. بل لسماع الأغنية.. «أسمع يا رضا كل شيء عَمْ يِغْلِى ويزيدْ.. البارح كنا عالحديدة وهلا صرنا عالحديد». كانت رفيقتي تسأل عن الأسعار.. توهم صاحب المغازة التي كان فيها زبائن مختلطون بين محليين وسياح. «كل لحظة سعر جديد» قال لها التاجر، أو هكذا تهيأ إليّ وقد اختلطت الأصوات بالأغنية.. كانت الأسعار خيالية لا شك، لكن التاجر كان يأمل أن يشتري كل من في الدكان حتى هذه المرأة التي دخلت مع رجل هائم ينظر إلى امرأته وإلى القماش ولكنه يسمع الأغنية.. انتهت الأغنية وكانت رفيقتي تسأل وتنظر إليّ وأنا أقف في الباب.. غادرنا ولم نشتر شيئا.. قالت: الأسعار نار، سرنا في أسواق المدينة بصعوبة أعدت على مسامعها بعضا من الكلمات التي علقت بذهني، وأنا أبحث في اليوتيوب عن الأغنية: «ميش بعد اليوم إن بهذلني حدا.. صارت حياتي شي بهذلي». قالت رفيقتي وهي تمزح: اللطف عليك.. «يا رضا».
اللحظة التي تسمع فيها قطعة موسيقية أو تشاهد فيها فيلما أو تستمتع بلوحة فنية وتربطك بواقعك، هي لحظة تتجاوز فيها تمثل القطعة الفنية إلى أن تقيسها على وضعك. في علم العلامات المعاصرة شيء اسمه «الاستعارة المرئية» ونزيدها نحن بعد لحظة الاستمتاع بالأغنية اسما على قياسها: «الاستعارة السماعية» لتعني جماليات الصورة وجماليات الموسيقى. لكن للاستعارتين وظيفة أخرى غير الوظيفة الجمالية، هي وظيفة تقاسم الشعور بالحالة الجمالية ومنها هو تقاسم الهموم.
روعة الفن ليس في أنه يحمل إليك رسالة تبذل جهدك في أن تفهمها وفي أن تؤولها، ليست بلاغة الصورة في الأفلام، أو في غيرها في أنها تحلم نفسك بمشاهد تريدها ولم تعشها أو في أنها تريك مواقف تخاف أن تحدث لك؛ وليست بلاغة الصورة السماعية في الموسيقى في أنها تحرك سمعك المتشوف للُحون مقبلة، من بلاد الحب أو الحرب أو الهجرة في مواسم القيظ.. ليس هذا وحده هو الذي يشد الاهتمام، بل إن ما يشده أيضا هو التشارك في الوضعية، لا بناءً بل وجدانا، أن تعيشها.
أول ما شدني في أغنية جوزيف صخر، التي لحنها زياد الرحباني قوة طالعها، أعني المفارقة السببية الموجودة في الموال المدخل. اللحن خفيف كالمستحي والصوت رفيع كالصارخ من ألم.. صحيح أنه موال شآمي لا تجديد فيه، لكن في نبرته شيئا من الحزن الصادق الذي يسري في الأصوات المقطعة والمتقطعة.. في كلمات الموال الأول تقابل مأساوي بالمعنى المعاصر اليومي للمأساة وليس بمفهومها اليوناني: التقابل الأول بين «تْغَير هَوانا» وسعر كل شِيء غلي».. الهوى الذي تغير تبدل وتبلد لمقتضيات الواقع.. هذا الواقع الذي صار يفكر فيه في المعيش وقد احترقت نار أسعاره، كان العاشق يعيش على نار احتراق الهوى والصبابة، فصار احتراقه من جهة العجز عن تحصيل القوت.. في الكلام لعب على النار الثاوية في الهوى، والنار التي في السعر من غلاء المعيشة. التقابل الثاني والمأساوي يوجد أيضا في «خسة زارعها كنت» و«ما عادت إلي» ويمضي الكلام إلى المأساوية اليومية على وتيرة اللامبالاة: «موش هام بعد اليوم إن بهذلني حدا»، «صارت حياتي شي بهذلي». هذا الواقع الذي غلت أسعاره والذي هان فيه الإنسان وصار مشغلا من البديهي ألا يكون للوجدان فيه قيمة ولا للقيمة. يختم الموال بنصح «رضا» هذا الذي لا يرضى بواقعه ويحمل اسمه القدري دليل الرضوخ: «وبعدك عنيد يا رضا وأصغر نصيحة بترفضها». العناد يعني ههنا مواجهة هذا الانصياع للواقع ومواجهة الضياع والتيه والتسليم والصراع من أجل استعادة الوضعية القديمة: الحب والقيمة فهما الأصل وليس «العِيش» إلا في رتبة ثانية. هذا تصور الأدب المثالي الذي يبني الشعور والقيم ويتناسى اليومي فهي من تفاهات الحياة.
الفن يطرح عليك وجهتي نظر أو أكثر فهو يقربك من واقعك الذي مزقك بتفاصيله وتفاهاته: كيف تعيش وكيف تأكل كي تعيش كي تعود إلى حبك وقيمك؟ أن تجوع يعني من هذه الوجهة من النظر أن تتعطل وظائفك الشعورية والثقافية والقيمية، وعليك أن تكدح كي تعيش وتترك البواقي بما في ذلك السياسة والعاطفة والقيم. هذه وجهة نظر تحرك الكثير من «العياشة» والمتصالحين مع واقعهم؛ لكن الوجهة الثانية من النظر التي يومئ إليها الفن هي عكس هذه: إن الحياة بتفاصيلها بمعاشها البسيط أو المرفه بخستها أو قصورها لا بد أن تكون مبنية على الثقافة والقيمة والعاطفة، وإن الأكل والحياة المادية هي شأن النوع الحيواني ككل، لكن النوع الإنساني مختلف القيمة، فيه ركن الإنسانية التي يعترض بها الإنسان على بهيميته. ما من فن إلا وهو يومئ إلى هذا؛ ويمكن القول إن» الفنون والآداب ما تزال إلى يوم الناس هذا – وبقطع النظر عن أنواعها واتجاهاتها- محتشدة في الرؤية الثانية، فللفن لغته وعلاماته.
الفنون التي تستعمل مع علاماتها الخاصة (البصرية والسمعية) العلامات اللغوية تفتح للناس وباللغة بوابات لكي يتحاوروا مع الفنون الأخرى كالسينما والموسيقى. الموسيقى في حالاتها الفضلى يتحاور فيها العلامي اللغوي مع العلامي اللحني، وهذا شرط أساسي من شروط النجاح في المناسبة بين علامات متعاملة لها هويات مختلفة.
ما زلت أسير مع رفيقتي في الأسواق.. يسألها كل تاجر أن تشتري.. يضع تاجر العطور شيئا من العطر على يدي سياح: ذوقوا لعلكم تشترون… ينبعث صوت الأغنية: «تعلم لغة أجنبية هيدا العربي ما يفيد.. دور لندن من عشية ماري بتهجي وبتعيد».
كان تجار الذهب في المدينة العتيقة يسألون رفيقتي: ألديك ذهب للبيع؟ قالت لأحدهم: لي قطعة وحيدة نادرة.. وأشارت إليّ: قال: ربي يفضلكم لبعض.. قلت لها: وأنا أغني مع المطرب «كل شيء يغلى ويزيد».. وأضفت وقد حفظت الأغنية: «البارح كنا عالحديد واليوم صرنا عالهواء.. دخلنا المطعم وكنا نتضور جوعا.. قلت للنادل: أريد صحنا تونسيا فيه خس.. وأضفت: أما زال الخس بخسا.. قال: ما يغلو عليكم شيء. ثم نظر إلى رفيقتي وقال لها: ألا يعرف زوجك أن الصحن التونسي لا خس فيه؟ قالت زوجتي: أرجوك سايره وضع له ورقة خس في صحنه التونسي.. مضى النادل وسمعت من يوصيه أيضا بصحن تونسي فيه خس.. نظرت إلى الرجل بازدراء.. عاد النادل بالصحن ولا خس فيه فحمدت الله على الغلاء..
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
Reactions

تعليقات