القائمة الرئيسية

الصفحات

الدراسة التحليلية النقدية الفلسفية عن طبيعة الألوان في أعمال الفنان التشكيلي غسان غائب "كوكبنا اليوم / فكر بالأخضر" - دنيا صاحب

 


الدراسة التحليلية النقدية الفلسفية عن طبيعة الألوان في أعمال الفنان التشكيلي غسان غائب "كوكبنا اليوم / فكر بالأخضر"

 بقلم: الباحثة والناقدة دنيا صاحب – العراق


تُعدّ أعمال الفنان التشكيلي غسان غائب نموذجًا فنيًّا أقرب إلى الواقع، يجمع بين النزعة التجريبية والرمزية المفاهيمية، متجاوزًا الحدود التقليدية للفن التشكيلي. قد يكون بسيطًا أو معقّدًا، لكنه يُستخدم وسيط لإيصال مفهوم فلسفي أو نقدي أو تأملي. يُركّز الفن المفاهيمي على توسيع إدراك المتلقي للفكرة، ويُركّز على انفعاله العاطفي، ليطرح تساؤلات وجودية وإنسانية ملحّة. ومن خلال استخدامه للألوان والمواد بأسلوب غرائبي متنوّع، يعبّر غسان عن قضايا البيئة، والحرب، والهوية الممزّقة بفعل الاغتراب، مُقدّمًا خطابًا بصريًّا وفلسفيًّا يدمج بين الجمال والتساؤل، وبين الواقع والخيال.

الطبيعة اللونية والأسلوب الفني


يتميّز أسلوب غسان غائب بتوظيفه غير التقليدي للألوان، حيث يستخدم تدرّجات لونية عالية الكثافة والتباين، تتراوح بين الألوان الحارّة والباردة، المشرقة والمعتمة. ويُحدث هذا التباين توتّرًا بصريًّا يدفع المتلقي إلى التأمل والتفاعل الحسي والفكري مع العمل فالألوان لديه ليست مجرد عنصر جمالي، بل وسيلة تعبيرية تعكس حالة وجودية تُجسّد مشاعر الألم، والأمل، والتمرّد، والتساؤل.

في أعماله، تتداخل الألوان مع مواد متنوعة مثل الزفت، الورق، الأكريليك، والنفايات الصناعية، ما يضيف بُعدًا ملموسًا يثري التجربة البصرية ويُعزّز من تأثيرها الحسي والفكري. هذا التداخل بين اللون والمادة يعكس قدرة الفنان على خلق فضاءات متعددة الأبعاد تُثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين الإنسان والبيئة.

الرموز الهندسية والمواد المستخدمة


يُدرج الفنان في أعماله رموزًا هندسية مثل المربّع، الصليب، والمثلث، والدائرة، والمستطيل، تحمل دلالات ثقافية وروحية. تُستخدم هذه الرموز كوسائط بصرية تعبّر عن مفاهيم مثل الهوية، والانتماء، والوجود، وتفتح أبواب التأويل أمام المتلقي.

أما المواد المستخدمة، فتتنوّع بين خامات طبيعية وصناعية، في دمج مقصود يُحاكي واقع الإنسان المعاصر. ففي عمله "رئة الكون"، استخدم النايلون، الحبال، جذوع الأشجار الميتة، ومروحة هوائية ليُنتج تركيبًا يُحاكي حركة الرئة البشرية، مُجسّداً من خلاله تأثير التلوث البيئي على الكائن الحي.

السياق البيئي والسياسي في اللون


في مجموعته أعماله الفنية "مطر أسود"، يُجسّد غسان تأثير حرق آبار النفط في الكويت على البيئة، حيث يتحوّل اللون الأسود إلى رمز بصري للكارثة البيئية التي امتدت آثارها إلى العراق والدول المجاورة. بكثافته وامتداده، يُعبّر هذا اللون عن حالة الطوارئ البيئية، ويثير مشاعر القلق والخوف من المستقبل.

 سيكولوجية الألوان وفلسفة اللون في الفن المفاهيمي والغرائبي


تُشكّل سيكولوجية الألوان مفتاحًا لفهم التأثير النفسي العميق الذي تُحدثه في المتلقي إذ إنّ كلّ لون يحمل ترددات طاقية تعبّر عن مشاعر وأفكار تستبطن البُعد الروحي الخامس وفي سياق الفن المفاهيمي والغرائبي، تتحوّل الألوان إلى رموز ودلالات تعكس حالات نفسية وفكرية متراكبة، تُثير الجانب الإنساني وتفتح نوافذ التأمل. وبهذا يطرح الفنان غسان غائب فلسفة لونية تتجاوز المدلول التقليدي للون، لتغدو الألوان جسورًا تمتدّ بين الوعي واللاوعي، وبين الواقع والخيال، مما يمنح أعماله طاقة إيحائية تُلامس الوجود وتكشف عمقه الباطني.

في هذا السياق، لا تُعدّ الألوان مجرّد عناصر تجميلية، بل تتحوّل إلى رموز حاملة لرسائل فلسفية مركّبة تُثير أسئلة وجودية حول مفاهيم الكون، والبيئة، والطبيعة، والهوية، والزمان، والمكان. وتتماهى الألوان مع الفانتازيا والرموز الغرائبية، لتُنتج تجربة حسّية وتأملية تدفع المتلقي إلى الغوص في أعماق الذات، وتفتح آفاقًا واسعة للتأويل. إذ يغدو اللون لغة وجدانية تُعبّر عن الأبعاد المادية من منطلق معنوي في الوجود، وتُجسّد الحضور الإنساني ضمن لوحة تنبض بالأسئلة والتجليات الخفية.

الخاتمة: استنتاج فلسفي جمالي


يتّضح من خلال تحليل أعمال الفنان غسان غائب أن توظيفه للّون لا ينطلق من منظور زخرفي أو جمالي سطحي، بل ينبع من توازن دقيق بين الرؤية الفلسفية والبحث في الطاقة التعبيرية للّون وفاعليته البصرية والنفسية. فالألوان والمواد في لوحاته تتحول إلى رموز نابضة بالحياة، تُعيد تشكيل الإدراك البصري والروحي، وتُفعّل الوعي الجمعي في سياق كوني شامل. إنها ليست مجرد وسائط، بل كيانات رمزية تحمل دلالات تتجاوز السطح إلى العمق، وتستدعي تأملاً في قضايا الإنسان والبيئة والهوية والواقع المعاصر. من هنا، يُقدّم غسان غائب خطابًا تشكيليًّا معاصرًا يجمع بين الفن والفكر، ويمزج بتناغم بين وحدات الفن والعلم والفلسفة، وهو ما يمنح أعماله بعدًا وجوديًّا وروحيًّا عميقًا. بهذا، تتجاوز لغته التشكيلية حدود الشكل لتلامس جوهر الإنسان وتستقر في لبّ التجربة الجمالية المعاصرة.










Reactions

تعليقات