القائمة الرئيسية

الصفحات

قراءة في أقصوصة " جنون " للكاتب التونسي منير الجابري - باسمة العوام

 


قراءتي في أقصوصة للكاتب التونسي أ .منير الجابري تحت عنوان " جنون "
ا==========================


إنك وانت تقرأ أقاصيص " منير الجابري " ، تشعر كأنك قابع في ركن للذكريات على رصيف الحقيقة ، معك صندوق تئنُّ فيه أصوات العابرين الذين يحملون أوطانهم على ظهورهم ، يركضون .. حاملين تذاكر غربتهم و أوجاعهم ؛ وصوتك يركض معهم وروحك تأسرها الريح الراحلة بين محطات الماضي واليوم والغد .
حكايات من قلب الحياة ، أخرجها كاتبها بكلّ وعي وحرفيّةٍ ومهارة في هذا الشكل من أشكال الكتابة القصيرة أو ماسمّي بالأقصوصة ، كما في هذه الأقصوصة تحت عنوان " جنون " .
== " جنون " : العنوان وهو عتبة النص والمدخل إلى تفاصيله . فماهو البناء اللغوي والدلالي الذي ينطوي عليه ، وماهي التأويلات التي ستكشف عنها الأحداث ؟ عن أيّ جنون يتحدث كاتبنا ؟ ومن هو المجنون ؟ ماسبب جنونه ؟ وإلى أين سيقوده هذا الجنون ؟ أهو جنون الأحلام ، العقل ، القلب ، الواقع أم جنون مرضيّ ؟
== من العنوان إلى النّص حيث تستوقفنا شخصية " ناجي " الشاب الجامعي المكافح الذي يعمل لتأمين لقمة العيش وتعرضه للإذلال والتهديد بالطرد من مسكنه المستأجَر من رفيق دراسته الفاشل والوارث لثروة أبيه . مجموعة تناقضات وجدل في النقائض . تصوير لواقع مؤلم وقضية شباب مشتت ومعاناة من فقد العدالة والقيم والتمييز الطبقي و الفقر والحرمان إلى محاولات الهروب من هذا الواقع والرحيل . وبكثير من الدهشة والتشويق يأخذنا الكاتب إلى الشخصية التي غيرت مجرى الأحداث وكان لها التأثير الأعمق في شخصية" ناجي " وهي حبيبته أيام الجامعة والتي كان يلتقيها في مكتبة الجامعة ، فتتراكم أشتات الذكريات وتنبثق لحظة الأزمة والمصير والتي سمّاها " جويس " بالإشراق أو الكشف إذ يقول :" يركز الكاتب على شخصية واحدة في مقطع واحد وبدلاً من تتبع تطورها ، فإنه يكشف عنها في لحظة معينة ، هذه اللحظة التي تنتاب فيها الشخصية بعض التحولات الحاسمة في اتجاهها ".
هكذا كشف لنا الكاتب تحول شخصية ناجي وقراره بالرحيل واللحاق بحبيبته بعد سرد شريط من الذكريات ، ووصف لحالة البؤس والضياع التي وصل إليها .
وباعتماد الركائز الأساسية التي تبنى عليها الأقصوصة ، قدم الكاتب نصّه فظهرت وحدة المكان من خلال مدينة ناجي التي دارت فيها الأحداث ، ثم الزمان الذي لم يتجاوز اليوم منذ لحظة خروج ناجي إلى العمل وعودته ليجد نفسه مطرودا من مسكنه ، ثم مروره بشوارع المدينة وصولا إلى محطة القطار ، والعلاقة النفسية التي نشأت بينه وبين هذا المكان .
أما عن اللغة ، فقد استخدم الكاتب أشكالا لغوية مختلفة .. كالسرد والوصف الحكائي في تقديمه للشخصيات .
-الحوار الخارجي : " سمع صوتا يناديه ..."
"عند وصوله إلى العمارة ، وجد حارسها بانتظاره، منعه من الدخول ....".
- المنولوج الداخلي :" تساءل في أعماقه
لم أتوقع أن أمرّ بهذا المشهد ، كيف سأنام في الشارع ؟!!!....".
وبالنهاية تأتي القفلة محدثة انفعالات ومشاعر عميقة في ذات المتلقي وتدفعه للتأمل أكثر بما يحيط به ومايعكسه واقع الحياة من حوله والمصير الذي فرضه هذا الواقع على جيل الشباب المكافح .
ا==========أ
الأقصوصة ..
جنون
كان ناجي على وشك مغادرة العمارة ٠حين سمع صوتا يناديه، وقف ونظر الي الخلف ٠لقد كان مالكها التي ورثها عن والده ٠
اصابته الحيرة لانه قد درس معه في الجامعة ولم يفلح في استكمال دراسته ٠وقد كان دوما يشوه صورة ناجي أمام زملائه الطلبة، اثناء تلك الأيام المعدودة التي قضاها في الجامعة ٠٠٠
اعلمه ان موعد دفع الإيجار قد مر عليه يومان ٠ثم تركه وركب سيارته ٠
نظر ناجي الي ساعته ثم اسرع الخطى نحو محطة الحافلات٠
حتى يلتحق بعمله ٠ ما إن وصل إلى حضيرة البناء إنهمك في العمل ٠لكنه شعر ببرد شديد يتسرب الي جسده ٠٠٠
رفع بصره فشاهد كانونا به جمرات متاججة ٠اتجه نحوه حتى ينتعش بالحرارة ٠
فقد كان الزمن أواخر شهر ديسمبر ٠
كان ناجي مرغما على العمل حتى يوفر لنفسه لقمة العيش ٠
لانه انهي الدراسة في الجامعة ولم يجد شغلا ٠كان يطمح الي الهجرة الى أوروبا ٠
هو شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره ٠بشرته سمراء طويل القامة ٠يضج حيوية ونشاطا ٠
انهي ناجي حصة العمل بعد غروب الشمس ٠عرج الي المقهى ليترشف فنجان قهوة ٠ثم رجع الي شقته ٠وعند وصوله الي العمارة وجد حارسها بانتظاره ٠منعه من الدخول ٠٠٠
وقف لحظات بعيد ترتيب اشيائه ٠فد دخل في فوضى بعد منعه من الدخول ٠تساءل في أعماقه
_لم اتوقع ان امر بهذا المشهد؟ كيف سانام في الشارع!!؟
غادر المكان دون وجهة محددة ٠طالت جولته في المدينة إلى أن وصل محطة القطارات ٠وهو يشعل سجارة تلو السجارة٠٠٠
المسافرون، منهم من على اهبة الاستعداد للسفر ومنهم من ينام على كراسي المحطة ٠التي كانت فوانيسها تتدلي بضوئها الخافت ٠
جلبت سمع ناجي جلبة فاستطلع الأمر فاكتشف التفاف القطط حول القمامة وهي تبحث عن الطعام ٠فتنبعث روائح كريهة ٠
مر النصف الأول من الليل ٠اشتد البرد اكثر
فجأة رن هاتف ناجي، رف قلبه ٠ابتسم ثم تسمر في مكانه
فهو يعرف نبرة الصوت لمن تكون ٠مر وقت طويل لم يلتقي بها ٠
إنجرفت به الذاكرة الي تلك الأيام التي جمعته بها ٠كان يلتقي بها في مكتبة الجامعة ٠
بقيت اخر زيارة الي بيتها راسخة في ذهنه ٠كانت تسكن في بيت قريب من الحدود الليبية ٠ولما خرجت معه في جولة
في مساء يوم خريفي ٠
جلسا تحت شجرة ضخمة جفت أوراقها ٠ كانت الريح تعصف بقوة، تحمل حبات الرمل وتقذف بها أوراق الشجرة ٠
هذا المكان هو ملاذ صديقته من جحيم الواقع المرير ٠
اقتربته منه في تلك اللحظة ٠تعجب لبريق الفرح الذي لمع في عينيها الجميلتين ٠حاولت ان تهمس في اذنه ثم قلبه
_ساخذك الي عالم الإبداع ٠٠٠ عالم تحتاجه انت والإنسانية يقتحم العتمة نورا ٠٠٠
نظر إليها وهو في منتهى الاندهاش لانه احس بصدق في كلامها ٠تعجب لثورة جنون الإبداع التي إصابتها ٠
ودفعتها الي تحريك أوتار الكمنجة ٠احس ناجي بالدفيء بدل الصقيع ٠فوجئ ناجي ببصيص النور الذي احدثته النغمات التي تنبعث من بين اناملها، متماهية مع ابتسامتها الساحرة
توغلت الموسيقى في المكان وانتشرت كضوء القمر في الليلة الظلماء ٠بددت وحشة المكان ٠فانحنت لها الريح وهدات من روعها ٠كما داعبت حبات الرمل أنغام الموسيقى و احاطت بجيد الاغصان الظماي ٠
ظلت الفتاة كالفراشة تحوم حول الشجرة وتقتات من رحيق الازهار ٠
بقي ناجي يتابعها وهي تعزف لحنا لم يستمع اليه من قبل ٠
اهتزت لها الاغصان طربا واخترقت الحواجز ٠ثم حلقت بعيدا تناجي غيمات السحاب التي انهمرت دموعها فلامست وجه الأوراق التي استفاقت من سباتها واحتضنتها ٠
امضت الفتاة وقتا طويلا فزرعت الأمل ٠
ملامحها البريئة ٠جذبت ناجي الذي كاد عقله يجن لأنها فجرت في ثنايا المكان جداول الفرح والسرور تبعث شهوة الحياة وهي رافلة في أنوثتها ٠وفي كل لحظة تتحمس اكثر وتطلق العنان لعزفها ٠فاشرق المكان بصدي الموسيقى ٠
تسارعت نبضات ناجي وهو ينظر إلى تغيير المشهد ٠ماحدث اكبر مما تصور ٠٠٠
نقرات الموسيقى الناعمة جعلت اللقاء حلما جميلا ٠فقد شحنت جوارح المحيط بكل صور الجمال ٠
كانت تحرك اناملها وشعرها يتدلي على كتفيها ثم يهتز مع كل هبة نسيم ٠
فجاة نفذ شحن هاتف ناجي ٠ظهرت له خيوط الفجر تطرد ظلمة المحطة ٠اتجه الي أقرب مقهى ثم ذهب لإحضار جواز سفره ليلتحق بحبيبته٠٠٠٠
الكاتب والقاص :منير الجابري تونس

Reactions

تعليقات