الفنان الكبير منير بشير: حضور لا يزول
بقلم: د. نصير شمه
اليوم، يصادف ميلاد ورحيل الفنان الكبير منير بشير، شقيق جميل بشير الأصغر، وأحد أعمدة الموسيقى العراقية والعربية في القرن العشرين. الحديث عن منير بشير ليس استعادةً لذكرى عابرة، بل هو استدعاء لتجربة استثنائية جعلت من آلة العود جواز سفر ثقافي للعراق إلى العالم.
منير لم يكن مجرد عازف، بل كان مبدعًا أعاد صياغة العلاقة بين العود والجمهور. بأسلوبه الخاص ومهاراته الفريدة في استخدام الريشة والأصابع، فتح مساحات جديدة للآلة، مانحًا إياها بعدًا تقنيًا غير مسبوق، وحضورًا مسرحيًا لا يُخطئه المتابعون. ضربة ريشته كانت تحمل دقة نادرة، يندر أن تجد لها مثيلاً حتى اليوم.
كان على المسرح كأنه يكتب نصًا فلسفيًا بالنغم، مزيج من سحر الشرق وعمارة وجدانه، من تأمل عميق وحوار متواصل مع صدى الروح. وفي عزفه تتجسد بغداد بنهريها وأزقتها، كما تتجسد ألوان الشرق وسحره العابر للحدود.
تأثيره لم يتوقف عند حدود بلده، بل امتد إلى العالم بأسره. كل من اقترب من العود في العراق أو في أي مكان آخر لا بد أن يلمس أثر منير، إما في طريقة الضرب بالريشة، أو في فضاء المخيلة التي فتحها أمام الأجيال. ومع مرور السنوات، تتضاعف قيمة تجربته لدى محبي الموسيقى، إذ نكتشف أكثر فأكثر أن حضوره لم يكن عابرًا، بل تأسيسيًا.
ولأن العطاء لا يتوقف بغياب صاحبه، يواصل نجله الفنان عمر بشير، وبإخلاص واضح، الحفاظ على أسلوب والده ونهجه، ساعيًا لأن تبقى تلك المدرسة حيّة وفاعلة. كما أن في العائلة أسماء فنية عديدة، مما يجعلها بحق واحدة من أهم العائلات الموسيقية المتواصلة بنهجها وإرثها، التي قدمت الكثير وأسهمت في صياغة جزء مهم من الهوية الموسيقية العراقية والعربية.
إن الحديث عن الفنان الكبير منير بشير هو حديث عن مدرسة كاملة، عن رؤية جعلت من آلة قديمة لغة عالمية. لقد أثبت أن العود قادر على أن يكون سفيرًا حضاريًا، وأن يحمل فلسفة الشرق وصوته العميق إلى أبعد مسارح الأرض.
يبقى الراحل منير بشير، بكل فرادته وعمقه، فنانًا لا يمكن أن يتكرر. وكلما مرّ الزمن، ازدادت فرادته رسوخًا في الوجدان، كأحد العلامات النادرة التي تُثبت أن الموسيقى ليست مجرد فن، بل قدرٌ يصنع التاريخ والذاكرة معًا.
د. نصير شمه
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع