لا يكاد الإنسان العربيّ، الّذي يحمل همّ أمّته، يتنفّس الصّعداء حتّى تطفو إلى السّطح قضيّة جديدة تقضّ مضجعه وتستنزف وجدانه. فبينما نعيش وجع فلسطين، ونرقب بعين دامعة ما يتعرّض له شعبنا هناك من قتل وحصار وتشريد وتجويع، تفاقمت فجأة المأساة الإنسانيّة في السّودان، وكأنّ الجرح العربيّ يأبى أن يندمل، بفعل فاعل مجهول أو متغافل عنه.
أقول إنسانيّة لأنّ العنصريّة في جوهرها جرح يصيب الإنسانيّة جمعاء، لا مجتمعا بعينه. وهي إنسانيّة أيضا لأنّ أكثر من يدفع الثّمن هم الأطفال والنّساء الّذين لا ذنب لهم سوى أنّهم أبناء هذه الأمّة أو تلك.
ولعلّ ما يجمع بين ما يعيشه شعبنا في فلسطين وما يقاسيه أهلنا في السّودان ليس فقط الألم، بل الفاعل ذاته بأقنعته المختلفة؛ فحيثما وجد ضعف اقتصاديّ أو انقسام اجتماعيّ، ولو بسيط، وجدت العنصريّة بابا تدخل منه لتؤجّجه وتغذّيه، ثم تستثمره لصالحها.
في فلسطين، تمارس العنصريّة في أوضح صورها تحت راية الصّهيونيّة، وفي السّودان يستغلّ المتكالبون على خيراتها نار الحرب ليغذّوها بالجهل والطّمع والعصبيّة. فيتقاتل أبناء البلد الواحد باسم القبيلة أو الطائفة، كما يتقاتلون هناك باسم الدّين أو الأمن.
لكن لنسأل هؤلاء: من الرّابح ومن الخاسر في هذه الحروب العبثيّة؟
الخاسر واحد: الإنسان العربيّ في كلّ مكان. ففي السّودان كما في فلسطين، تستنزف الطّاقات، وتهدر الخيرات، وتطمس معالم الكرامة، بينما يجلس المتآمرون على موائد النّفط والذّهب والصّفقات.
وعلى افتراض أنّ أحد الأطراف في السّودان انتصر، فماذا سيجني؟
هل سينال من الذّهب ما يعيد له حرّيته؟ أم سيحكم على أنقاض وطن مدمّر، ليبقى رهينة ذلّ جديد وتبعيّة خانقة لا مخرج منها؟
ما تكاد تستقيم الحال في بلد عربيّ حتّى يجد المتآمرون طريقهم إليه، يعبثون بسياساته واقتصاده ونسيجه الاجتماعيّ. ومصيبة المصائب أنّ معظم الحكّام العرب لا تزال تنطلي عليهم حيل أكل عليها الدّهر وشرب، بل وربّما ساهموا فيها طوعا أو جهلا، وهم يظنّون أنّهم بمنأى عن الخطر.
لكنّ الحقيقة أنّه لن ينجو عربيّ واحد من نار العنصريّة الصّهيونيّة، ولا من غيرها من القوى المتكالبة على خيرات العرب والمسلمين، ما دام التّفرّق سيّد الموقف، والصّمت عنوان العجز.
إنّ مأساة السّودان اليوم ليست سوى صدى جديد لمأساة فلسطين، وربّما إنذار لمآس عربيّة قادمة إن ظلّوا على حالهم الرّاهنة. وكأنّ القدر يذكّرنا في كلّ حين أنّ قضيتنا واحدة، وإن اختلفت الميادين: قضيّة كرامة الإنسان العربيّ في وجه الظّلم والهيمنة والنّسيان.
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس


تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع