نصير شمه… يمثّل أصالة لحن الشرق
الوقت الذي تفتح فيه ألحان عود نصير شمه آفاقًا جديدة في الأبعاد الإنسانية والرؤية الكونية.
دنيا صاحب – العراق
يمثّل الموسيقار العالمي نصير شمه نموذجًا للفنان الذي استطاع أن يجمع بين الأصالة والتجديد، فأعاد للعود العربي روحه التاريخية، وأضفى عليه بعدًا فلسفيًا وإنسانيًا يجعل من موسيقاه لغةً كونيةً تتجاوز الحدود الثقافية والجغرافية لتصبح جسرًا حيًّا بين تراث الشرق وروح العصر الحديث. فمشروعه الفني ليس مجرد أداءٍ موسيقي، بل رؤيةٌ كونيةٌ متكاملةٌ تطرح نموذجًا موسيقيًا يوقظ الوعي الفكري الإنساني ويستحضر جذور الحضارة العربية والإسلامية، ويؤكّد الهوية الثقافية في عصر العولمة واختلاط الثقافات بمزيجٍ ثقافيٍّ ينسلخ عن أصول حضارتنا العربية الإسلامية.
يتحوّل عود نصير شمه من مجرّد آلة موسيقية إلى مرآةٍ للروح، وأداةٍ حاملةٍ لذاكرة أنماط فنون الشرق وتاريخه وأصوات المدن والأسواق، وأصداء الأنهار والصحارى والواحات، وعبق بساتين أرض العراق والعرب. كل مقطوعةٍ تصبح رحلةً روحيةً تنقل المستمع من الظاهر إلى الباطن ومن الشكل إلى الجوهر، فتُهيّئ له الانغماس في تجربةٍ موسيقيةٍ تفضي إلى التأمّل في عوالم الجمال، متجاوزةً حدود الظاهر إلى رحاب وحدة الوجود. النغمة، حين تنبع من مرايا الروح، تتماهى مع أنسجة الروح والكون في آنٍ واحد.
أصالة التراث العراقي والشرقي العربي عند نصير شمه تتفاعل مع التحديث؛ فهو يعيد صياغة المقامات والإيقاعات بلمسةٍ موسيقيةٍ غنائيةٍ ذات طابعٍ روحانيٍّ يحمل نسماتها ليملأ التجويف الباطني للناس ويسدّ فراغات النفس بألحانه الموسيقية. الفلسفة تسري في عروقه بأبجدية نوتاتٍ شرقيةٍ قادرةٍ على مخاطبة الوجدان البشري في كل زمانٍ ومكان. هذه القدرة على الجمع بين الجذور والابتكار هي ما تمنحه لقب «ملحّن روح الشرق»، إذ لا يكتفي صدى عزفه بتجديد الماضي، بل يصبح جسرًا حيًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، وفكرًا موسيقيًا يتجاوز العزف إلى التأمّل في طبيعة تأثير الصوت أو اللحن، حيث تصبح النغمة طاقةً معنويةً وحالةً وجدانيةً تُهذّب النفس وترتقي بالروح إلى أبعادٍ روحيةٍ ساميةٍ متجاوزةٍ البعد الروحي المتدنّي السفلي، وتربّي المستمع على الذوق الرفيع وتفتح أبواب الحكمة، فتغدو الموسيقى دعوةً إلى الحوار بين العقل الواعي واللاواعي والانتقال من الإحساس إلى المعنى الحقيقي، وخروجًا من الجسد المادي وذلك باستشعار طاقة مشاعر الروح أثناء العزف.
ألحانه السماوية تحاكي النفس بحوارٍ داخليٍّ يدعو إلى الصحوة أو اليقظة من سبات الغفلة في ممارسة الطقوس الروحانية في موشّحات العشق الإلهي في ليالي شهر رمضان المبارك.
وتتجلّى في ألحانه، وخصوصًا تلك المشبعة بالعشق الإلهي ومحبة الرسول الكريم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، طاقةُ توازنٍ فريدةٌ تصعد موجاتها إلى نسيج الكون فتُعيد الانسجام بين الأصوات البشرية وبين الإيقاع الكوني العميق بلغة وحدة الوجود مع الخالق المبدع. فالنغمة عنده ليست مجرد صوت، بل مرآةٌ تعكس وحدة الوجود الشاملة بين العبد وربّه، وتكشف كيف يمكن للإبداع البشري أن يرتبط بالنسق الكوني والإلهي ليصعد إلى مراتب القديس، فتتحوّل الموسيقى إلى فعلٍ روحيٍّ بتفاعلٍ روحانيٍّ يربط الانسجام بالمشاعر الوجدانية مع المعبود من خلال أعماله التي يقدّمها في عروضه الموسيقية، ويعيد ترتيب ماهيّة الأصوات أو صدور النغمة أو اللحن ضمن تناغمٍ كونيٍّ يعكس حكمة الخالق الملهم للعبد بقدرة الله في توزيعها على مناحي الحياة الواسعة.
ولأن الفن عند نصير شمه ليس ترفًا بل رسالة، فهو يوظّف موسيقاه في خدمة القضايا الإنسانية والثقافية، فيصبح عوده صوتًا للسلام ومشروعه الفني منارةً لتلاقي الثقافات العالمية ويستنهض حكمة التنوير. وهكذا تتحوّل الأصالة في تجربته إلى فعلٍ حضاريٍّ استثنائيٍّ، لا إلى مجرد شعاراتٍ أو أهازيج ماضٍ خالٍ من أصله الفعل والفاعل، فهو يجسّد في مسيرته الموسيقية والإنسانية أصالةَ لحنِ الشرق في أرقى صورها: أصالةً متجذّرةً في روح الحضارة العربية والإسلامية ومتطلّعةً إلى آفاقٍ عالميةٍ رحبةٍ، حيث يصبح الصوت جسرًا بين قلوب الناس، وتصبح ألحانُ عوده فلسفةً تعبر إلى مدى العارفين بعقيدة وحدة الوجود الإسلامية الصوفية.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع