القائمة الرئيسية

الصفحات

الموسيقى لغة كونية ومرآة الروح - دنيا صاحب

الموسيقى… لغة كونية ومرآة الروح

دنيا صاحب - العراق 

أبحث في عالَم الموسيقى عن تلك المشاعر الإنسانيّة العميقة التي أحب أن أصفها وأحلّل أنماطها؛ فهي تحمل تأثيرًا بالغًا في مسامعي وتلامس وجداني وكياني. تسحرني الألحان وتشدني إليها بصورة لا إراديّة حتى أكاد أهيم، عند سماعها منتشية بأنغام العشق الإلهي كأن روحي تحلّق في أفق من النور والسكينة، غارقة في بحور الحب الإلهي، حيث لا زمان ولا مكان، إلا حضور الروح في حضرة الموجود المطلق، إذ إنني من الأرواح الشفّافة التي تخترق جدرانها موجاتُ الصوت المحمَّلة بتردّداتٍ طاقيّة تنبعث من مشاعر روح العازف، فتصل إلى أعماق روحي. لذلك أسعى دائمًا إلى حسن اختيار الموسيقار الذي أكتب عن أعماله الموسيقيّة، كي يكون النصّ تعبيرًا صادقًا عن جمالية روح الفنان، لا عن ظاهر ألحانه فحسب.

إن الموسيقى بالنسبة لي ليست مجرّد أصوات متناغمة تصدر عن الآلات، بل هي لغة كونيّة تعبّر عن عقيدتي في وحدة الوجود، وتُحاكي الوعي الباطن وتوقظ فيه البُعد الروحي الذي أسمو من خلاله في عالم ملكوت الروح. وهذه الرؤية من طباع أهل العرفان الذين يدركون جوهر الوجود ويستبصرون حقيقة الرمزية الكامنة في مبتكرات الإنسان.

الموسيقى مرآة للروح وميدان للتأمّل الفلسفي في أنماط الجمال والحياة، وفي فهم طبيعة الأحاسيس والمشاعر الصادرة عن الإنسان. وحين أكتب عن موسيقار ما، أكون كأنّي أقرأ في كتاب مفتوح من ألحانه، أبحث في دلالاتها عن أسرار الوجود وارتباطه بالإنسان.

ومن هذا المنطلق أرى أنّ الموسيقى ليست ترفًا جماليًا فحسب، بل سبيلًا إلى المعرفة الباطنة، تُرشدنا إلى المعاني العميقة وتكشف لنا طبيعة الروح خلف تعدّد الصور. فهي أفق فلسفي رحب، يجمع بين الفن والروح والفكر، ويُعيد إلينا وعينا بذواتنا وبالكون في آن واحد.

لقد أدركتُ في مسيرتي أنّني لم أستفد من أي دراسة مع أستاذ عادي سوى الموسيقار العالمي نصير شمه؛ فهو الملهم الحقيقي للمبدعين من الفنانين الموسيقيين على مدى أربعة عقود من الزمن. وأنتَ تعلم السبب، وإذا عُرف السبب بَطُل العجب. ففي حضرته تتجلّى الموسيقى حكمةً في الحياة، ويغدو صوت آلة العود مرآةً للروح، متجاوزًا مرحلة التعليم التقليدي إلى رؤية فلسفية تتفاعل فيها الموهبة مع المعرفة الاستثنائية، لتصبح كل نغمة وكل صدى من ألحانه الصوفية تجربةً للتأمّل في عوالم الجمال والوجود، حيث يصبح الإبداع جسرًا بين العقل والمنطق والقلب ونشوة الروح، ويغدو الفن طريقًا إلى فهم أعمق للإنسان وجوهر الكون.

فالتعلّم ليس مجرّد تلقّي معلومات، بل هو تفاعل حيّ بين المعلّم والطالب، وإشراق روح على روح. وعندما يغيب هذا الحضور الصادق تتحوّل المعرفة إلى قشور بلا لبّ. أمّا المعلّم الحقّ فهو من يوقظ فيك الاستبصار والوعي قبل أن يزوّدك بالمعلومات، ويقودك إلى اكتشاف حقيقة العلوم بمعناها الجوهري والفلسفي، لا أن يملأ ذهنك بالمفاهيم الوضعيّة. ومن هنا فإن قلّة الانتفاع بالأساتذة الذين يفتقرون إلى هذه الروح والفكر المستنير بالحكمة الإلهية أمر متوقَّع؛ لأن العلم بلا نور ولا حكمة لا يُثمر، والمعرفة بلا روح صادقة لا تُحيي الإنسان.

Reactions

تعليقات