سيرة مدن مغربية "العرائش ...مجد تاريخ و جوهرة المحيط"
عبد الله ورياش
رائحة البحر ...غروب ...دروب تتقاسم السور العتيق
وأنا منفرد بذاتي أمشي وأسأل ... وكلّما توغّلت في الطريق أغترب أكثر .
غامضة ، هي العرائش ، كامرأة سقطت من ديوان نيزار ...كقصيدة نثر سكرانة بكحول ما بعد الحداثة . تتوسّد ذراع الأطلسي وتلتحف سماء غائمة .
لم يعد بقدورها أن تختزن قدرا من الشمس والحب في غفلة خبراء العراء (من فقهاء المؤنت السالم ....إلى تجار الاسمنت والآجور )
وحدها هنا توزع عدد البطانيات على عدد المصابين بالزكام وقبل أن تنام تذكر من يملكها بعض الوقت أن التهابات المفاصل تؤلمها ويؤلمها أكثر ، الوشايات الآتية من خنادق الغزاة الجدد : عين على البحر / إست على حجر / وأذن على خبر (عبد الرحمان المجدوب )
وليكن أيّتها المخطوفة من التكوين سنمضي إلى آخر الحوار فالذي بيننا أقوى من أن يتلاشى تحت وطأة النسيان....
بيننا قصة تاريخ ما قبل التاريخ وجغرافية لم يتنكر لها الوادي والبحر منذ 300ألف سنة قبل الميلاد ...فأنت معبر حضارات مختلفة " سوفكليس " و"اريبدس" ( ق. الخامس قبل الميلاد) و"بريخيليو" وسيسرون (ق. الأول قبل الميلاد )...وغيرهم مرّوا من هنا ...حدثونا عن حدائق اسبرديس ...الهات بنات الليل والنهار... وأنطي ابن الإله زيوس الذي شن معركة ضد هرقل ...والمحور أبدا تفاحة الخطيئة ، تفاحة من ذهب /تفاحة من غضب شقت الأرض نصفين فنما بينهما الماء المالح وألف خريف صليبي.
الأغريق والفنيقيون والرومان ... مرّوا من هنا وبعدهم استوطن المسلمون الضفة الأخرى من الوادي ...فخلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد عبر البحارة الفنيقيون مضيق جبل طارق (مغارات هركل) رغبة في البحت عن أسواق جديدة ، فأسسوا أولى المدينتين واحدة باسبانيا تسمى كادير (قادس)والثانية تسمى ليكسوس(تشمس) .أو كما يحلو لأهل المنطقة بتسمية المكان ب "الشميس" ( تشوميس)
ومع مقتل الشاب "بطليموس " على يد ابراطور كاليغولا غدت ليكسوس التي اكتسحتها الكتائب الرومانية إثر ثورة "ايدمون" مستعمرة ذكرها "بلينوس "ضمن قائمة مدن موريطانيا الطنجية (...)
والعرائش كمدينة رومانية تم التركيز على الحي الصناعي ، حيث أعادت تنشيط معامل التمليح التي أخدت تتطور من جديد . وتنعكس الرفاهية التي جنتها ليكسوس من هذا النشاط خلال القرن الأول من العهد الروماني في المساكن البديعة ذات الواجهات المزيّنة بالأعمدة والفسيفساء المزخرفة بالموضوعات الأسطورية والتي تغطي الأرضيات كلقاء إله الحرب "مارس" مع كاهنة الآلهة "فستا " وكذا فسيفساء الحوريات الثلاث ... وحول هذا الموضوع جاء في كتاب المغرب الأقصى لمؤلفه أمين الرحاني (الجزء السادس
إنما اختلف علماء الأساطير في موضع ذلك البستان — بستان بنات اﻟ «هسبيريد» وشجرتهن العجيبة — فقالوا إنه كان في البلاد الطرابلسية بالقيروان، وقالوا إنه كان بجوار طنجة، ومنهم مَن مضوا في التدقيق، فذكروا الأرض التي يجري فيها نهر لوكوس، وحدَّدوا المكان الذي سكنته اﻟ «هسبيريد» الحسان في ظلِّ شجرة تفاحهن الذهبي؛ فقالوا إنه على شاطئ النهر عند مصبه، حيث تقوم اليوم مدينة العرائش...
وفي أسطورة أخرى أن أربيس، إحدى بنات الدجى، دُعِيت مرةً لحفلة عرس، فألقت تفاحة ذهبية بين المدعوات لتأخذها أجملهن، ملكة الجمال، فكادت تحدث فتنة، فسُمِّيَتْ «تفاحة الشقاق»، وقد ادعتها ثلاث من اللواتي حضرن ذلك العرس، هنَّ أفروديت وهيرا وأثينا،
ياعرائش القلب؟ ماكنت أبدا جارية ولا خمارة بلا باب ... تاريخك أكبر وأكبر وأكبر من أن يختزل هنا ....
تأسست العرائش الحديثة سنة 1258 م (657ه) على عهد يوسف بن علي ( الدخيرة السنية ص 97) وفي سنة 1270م عانت المدينة من أول هجوم كما يذكر ذلك أبو محمد بن عبد السلام بن عبد العليم الغرناطي في كتابه "مروض القرطاس" قائلا : "بعد هجوم وحشي على المدينة أصبحت محطمة عن آخرها وتم ذبح كل السكان تقريبا" وهو الهجوم الذي ابتدأ عام 1269م (668ه) حين دخل النصارى حصن العرائش ( الدخيرة السنية ص 137)ومع بداية التوسع الاستعماري البرتغالي (1415- 1459) على عهد الملك خوان الأول هاجم الجيش البرتغالي مدينة العرائش بقيادة دييكو باسكيس وألفونسو مرتنس وخوان بروسو وكاد القضاء عليها لولا مساعدة المغاربة من الساحل الشيء الذي عجل بانسحاب المحتل سنة1459 اثر اتفاقية بين السلطان محمد الشيخ الوطاسي وخوان الثاني وفي الفترة نفسها عمل المولى الناصر( من اقرباء السلطان) على بناء قصبة العرائش لتبقى المدينة خارج منطقة النفوذ البرتغالي كما ظل ميناء المدينة ولفترة طويلة الميناء الوحيد المستقل الأمر الذي جعله يعتبر كميناء لمدينة فاس .
لكن مطامع المستعمر ظلت واقفة وراء الباب تتصيد الفرص ...ففي سنة 1575 أرسل ملك البرتغال " سيبستيان" الضابط "دييكو طوريس " ليدرس امكانيات دفاع المدينة ورغم أن المعلومات كانت ضدهم فقد استعد سيبستيان لاحتلال العرائش من جديد ...وقد ارتأى مجلس الحكومة البرتغالي أن أحسن طريقة لاحتلال العرائش يكون عن طريق البحر ...فكانت معرك الملوك الثلاث أو معركة واد المخازن التي أتبثت قوة المغرب وهزيمة البرتغال ...ونشير هنا على سبيل المثال إلى أن من قواد القوات المغربية : أحمد بن موسى وأبو علي القري والحسين العلج ...ومن جملة من استشهد بهذه المعركة الشريف عبدالله محمد بن علي الريسوني ( الاستقصا لاخبار دول المغرب الأقصى ج/ الخامس ص 83) .
لا أحد يستفز الموت ويشعرها بالذل والإهانة أكثر من "الشهيد " وحده يرسم الحرية والاستقلال بالدم لتنعم العصافير الصغيرة الغير مهيأة للطيران بعد، بدفء الوطن ...لذلك ستظل روح الشهيد أوسع من قبضة الموت ...
وماذا بعد النفوذ البرتغالي ؟
كان كارلوس الخامس يقول : "العرائش تساوي افريقيا بكاملها " وقد لاحظ الجغرافي اليوناني "سترابون" أن بسيط العرائش كان من الخصب بحيث تنتج حقوله اثنين وخمسين ضعفا نظرا لتوافر الآزوت والفسفور الضروريين اتغدية النجليات ومنها الزرع والخزيران وقصب السكر ( المغرب المعاصر ص 105) ومن قبل حكى الأمير القرطاجي "حنون" الذي قام برحلة إلى افريقيا أنه رأى في ليكسوس الفيلة والأسود والكثير من الحيونات المتوحشة كما تكلم عنها المؤرخ الأندلسي البكري ( القرن 11) قائلا أنها مدينة عظيمة ...ولهذا قام فليبي الثاني بمحاولات عديدة لاحتلال المدينة . مقترحا على احمد المنصور استبدال العرائش بمدينة الجديدة وقد رفض الملك المغربي هذا الاقتراح . وكان اهتمام فليبي الثاني بها كبيرا لدرجة أنه كان يهتم شخصيا بجميع العلاقات مع هذه المدينة ...وحاول فليبي الثالث سنة 1607 / 1608 احتلال العرائش وهذه الفرصة اغتنمها الاسبانيين حينما عرف المغرب حربا أهلية بين محمد الشيخ ومولاي زيدان ووقع في 9 شتنبر عام 1609 معاهدة تقضي بتسليم العرائش للاسبانيين .
وفي يوم السبت 20 نونبر سنة 1610 احتلت العرائش كليا. وقد غيّر الاسبان خلال فترة الاحتلال اسم المدينة باسم "سان انطونيو" وبعد مكوثها ثمانين سنة تحت الحكم الاسباني حرر مولاي اسماعيل المدينة من خلال معركة قوية في 17 محرم 1001 ه موافق 11نونبر سنة 1689م . وظلت صامدة في وجه الاحتلال إلى أن تمت سنة 1911 عملية انزال اسباني مفتتحة عهد الحماية الاسبانية على شمال المملكة والتي انتهت باستقلال المغرب سنة 1956 م ...
قال فيها الأديب المركشي " كنسس" والإسم كما يوحي بأنه بربري :
في فتح العرائش قد تبدى / لقدركم على الشعر الظهور
واضخى الناس كلهم نشاوى / على طرب وما شربوا الخمور
ومن أبواب المدينة العتيقة : باب القصبة المجاورة لساحة "الكومندانسيا " والتي يوجد بها المتخف الأثري شيد سنة 1279 م على عهد السلطان يوسف بن عبد الحق المريني- باب البحر – باب القبيبات...وكذلك حصن الفتح أو قصر السلطان المولى إسماعيل والذي تحول في فترة الاستعمار الاسباني إلى مستشفى وبرج النصر أو برج اللقلاق تم بناؤه على عهد أحمد المنصور الدهبي ...ولا بد هنا أن نشير إلى قصة حديقة الأسود أو فضاء "هسبرديس" والتي بها الآن أسدين من أصل أربعة أسود من الرخام تم نحتها سنة 1892 بألمانيا قبل احضارها إلى العرائش لاستقبال قيصر ألمانيا الثاني سنة 1905 إلا أن إثنين منهم اختفيا بقدرة (فاعل شر) من ذوي النفوذ .....
ومن (أعلام) العرائش
عبد الصمد الكنفاوي الكاتب والمسرحي مكون الجيل الأول من المسرحيين المغاربة وديبلوماسي مغربي من مواليد مدينة العرائش سنة 1928 توفي بالدار البيضاء سنة 1976/ وبالعرائش مكتبة وسائطية تحمل اسمه انشأت سنة 2006 نشأ في بيت جده بحي القصبة وبعد اجتيازه المرحلة الابتدائية والثانوية بامتياز التحق بكوليج مولاي يوسف بالرباط وهو الآن دفين مقبرة الولية للا منانة المصباحية ...
من مؤلفاته "مسرح الشعب: أعمال مسرحية" و "سلطان باليما" و "بوكتف" و "أمولا نوبا" و " السي التاقي: ارتجال ذي اللحية الزرقاء"



اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع