حين يصبح النهر قصيدة على ضفاف دجلة
على ضفاف دجلة، لا يجري النهر فحسب، بل تجري الحكايات، والذاكرة، وصدى المدن القديمة. ذلك النهر الذي عرف حضارات بابل وآشور، وسمع صوت الشعراء والمفكرين، ما زال شاهداً على مسيرة العراق، وعلى إنسانه الذي واجه الزمن بالصبر والكلمة.
في بغداد، حيث يمتزج عبق التاريخ بصوت الماء، يغدو دجلة أكثر من مجرى نهر؛ يُصبح رمزا للحياة والانتماء. هناك كتب الشعراء أعذب ما جادت به القوافي، وكأن النهر شريكهم في التأمل والحنين.
على ضفاف دجلة تغنى الشعراء
محمد مهدي الجواهري (1899–1997)، شاعر عراقي بارز، كتب عام 1962م، في غربته قصيدته "يا دجلة الخير" التي تجمع بين حب الوطن والحنين إلى جذوره:
حيّيتُ سفحكِ عن بُعدٍ فحيّيني
يا دجلةَ الخيرِ يا أُمَّ البساتينِ
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُه
على الكراهةِ بينَ الحينِ والحين
بدر شاكر السياب (1926–1964)، شاعر الغربة والإنسان، كتب في قصيدته "غريب على الخليج" يعكس الغربة وصدى الوطن البعيد:
الريحُ تعوي، والرعودْ
بينَ الخليجِ وبينَ دجلةَ حُجْبَةٌ
يُنسى بها الصوتُ البعيدْ
نزار قباني (1923–1998)، شاعر سوري، كتب عن بغداد ونهرها دجلة في قصيدته "بغداد":
عيناكِ يا بغدادُ منذُ طفولتي
شمسانِ ناعمتانِ في أهدابي
لا تنكري وجهي فأنتِ مدينتي
وورودُ مائدتي وكأس شرابي
دجلة: التاريخ والحضارة
يمتد نهر دجلة كأحد شرايين الحياة في العراق، منذ منابعه في جبال طوروس التركية مروراً بأرض الحضارات القديمة، حتى بغداد حيث يلتقي بجمال العاصمة ونبضها الثقافي.
لا يُعد دجلة مجرد نهر؛ بل هو كتاب مفتوح يروي حكايات الإنسان منذ آلاف السنين، ويجمع بين الماضي العريق والحاضر المُتجدد، بين التاريخ والحياة اليومية، بين الشعر والنثر.
على ضفافه، ينسج الأدباء العراقيون كلماتهم، وتغدو المياه مرآة للأفكار والمشاعر. دجلة، بما تحمله من جريان، يعكس حركة الحياة بكل تناقضاتها؛ الألم، الانتصار والخسارة، الهدوء والعاصفة.
هنا، في صمت الليل أو ضجيج النهار، يتشكل الشعر ويُولد النص، مُستلهماً من صوت المياه المُتدفقة، وانعكاس الضوء على السطح، وصوت الطيور.
يحمل النهر في تدفقه ذاكرة الإنسان والمكان. فقد كانت حضارات سومر وأكد وبابل وآشور تنبض على ضفافه، وكانت أولى الكتابات والمكتبات القديمة شاهدة على تواصل الإنسان مع الكلمة.
اليوم، وبين ضفاف المدن الحديثة، يستمر النهر في الإلهام، فلا تزال كلمات الشعراء والكتاب تتناثر مثل الأمواج، تحمل الأحلام والألم، وتبقى شاهدة على أوجاعهم، لتظل دجلة قصيدة مستمرة عبر الأجيال.
حين أكتب عن دجلة تتدفق كلماتي كتدفق مياه النهر لتصل إلى بغداد، المدينة التي حملت عبق العلم والأدب عبر العصور، فيمتزج روح القلم بعبق نسيم التاريخ والثقافة.
بقلم الأديبة: وفاء ميلود ساسي- ليبيا

اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع