📁 أخر المشاركات

التربية ليست عقابا… إيمان عبيدي تفتح الملفات المسكوت عنها داخل البيوت - حاورها سعدون التميمي

 التربية ليست عقابا… إيمان عبيدي تفتح الملفات المسكوت عنها داخل البيوت

_______________________________________

في زمن تتسارع فيه الاصوات وتتشابه الخطابات، يندر ان نعثر على صوت يختار الاصغاء قبل الكلام، والانسان قبل العنوان. في هذا الحوار، لا نستضيف مختصة بقدر ما نقترب من تجربة انسانية تمشي على خيط دقيق بين القلب والعقل، بين الامومة والرسالة، بين الاعلام والتربية.
ايمان عبيدي لا تدخل الى عالم الطفل والمراهق من باب التنظير، بل من نافذة الفهم، ولا تشتغل على السلوك كعارض معزول، بل تقرأه كنص نفسي مكتوب بالحاجة والوجع والاسئلة المؤجلة.
هنا لا حديث عن وصفات جاهزة، بل عن وعي يتشكل، ومسؤولية تحمل بحب، وايمان عميق بان التربية ليست معركة تربح، بل علاقة تبنى. حوار يفتح الملفات المسكوت عنها داخل البيوت، ويعيد الاعتبار لفكرة بسيطة وعميقة في آن واحد: الطفل لا يطلب الكثير، فقط ان يفهم.

_______________________________________

● بداية، بعيدًا عن الألقاب والاختصاصات، من هي إيمان عبيدي كما تحب أن يعرّفها القارئ؟

إيمان عبيدي إنسانة قبل كل شيء، تؤمن بأن الأثر الطيب هو ما يبقى. أمّ، ومرافِقة تربوية، عاشقة للكلمة والصوت، ترى في الإعلام رسالة لا مجرّد منصّة. أبحث دائمًا عن المعنى في ما أقدّمه، وعن القرب من الناس، خاصة الأسرة والطفل، لأنني أؤمن أن التربية الواعية اليوم هي أساس مجتمع متوازن غدًا. لا أسعى للألقاب بقدر ما أسعى لأن أكون صوتًا صادقًا، يُنصت قبل أن يتكلّم، ويترك أثرًا خفيفًا لكنه عميق.

● متى بدأت رحلتك مع التربية وتعديل السلوك؟ وهل كانت اختيارا واعيا أم مسارا قادك إليه الشغف والتجربة؟

بدأت رحلتي مع التربية وتعديل السلوك بشكل تدريجي، ولم تكن قرارًا فجئيًا بقدر ما كانت مسارًا صنعه الشغف والتجربة. في البداية كان الاهتمام نابعًا من خوفي من تجربة الأمومة و التساؤل المتكرر هل سأصبح أُمًا جيدة؟؟ بعدها تأتي تجربتي لتقديم و إعداد البرنامج الإذاعي المميز القريب من قلبي "إستثمر في صغيرك" ومن ملاحظتي لحجم المعاناة الصامتة داخل الأسر. مع الوقت، تحوّل هذا الاهتمام إلى اختيار واعٍ، مدعوم بالتكوين، والبحث، والرغبة الحقيقية في الفهم والمرافقة لا في إصدار الأحكام.

● ما اللحظة أو التجربة التي أيقظت داخلك الاهتمام بالطفل والمراهق على وجه الخصوص؟

اللحظة الفارقة كانت عندما أدركت أن وراء كل سلوك مزعج طفلًا غير مسموع، أو مراهقًا يبحث عن الأمان والاعتراف. مواقف بسيطة ظاهريًا، لكنها عميقة الأثر، جعلتني أوقن أن الطفل والمراهق لا يحتاجان إلى مزيد من العقاب، بل إلى من يفهم لغتهما النفسية، ويمنحهما مساحة آمنة للتعبير.

● كيف تصفين بداياتك الأولى في هذا المجال؟ وما أبرز الصعوبات التي واجهتك في تلك المرحلة؟

كانت البدايات مليئة بالحماس، لكنها لم تخلُ من التحديات. أبرز الصعوبات تمثلت في مقاومة بعض العقليات للتغيير، وفي النظرة التي تختزل التربية في الأوامر والعقاب. كما واجهت أحيانًا صعوبة في إقناع الأولياء بأن تعديل السلوك يبدأ من الكبار قبل الصغار، لكن الإيمان بالرسالة كان دائمًا أقوى من كل العوائق.

● ما أصعب موقف تربوي مررت به وترك أثرا عميقا في مسيرتك الإنسانية أو المهنية؟

من أصعب المواقف تلك التي يكون فيها الطفل ضحية صراعات الكبار، ويُطلب منه أن يدفع الثمن سلوكيًا ونفسيًا. حالات رأيت فيها أطفالًا يُوصَفون بـ“الشياطين”، بينما هم في الحقيقة يعكسون ألمًا لم يجد من يحتويه. هذه المواقف تركت في داخلي مسؤولية مضاعفة بأن أكون صوت يفهمهم لا صوت يُدينهم.


● في رأيك، لماذا يعد مجال تعديل سلوك الطفل والمراهق من أكثر الاختصاصات حساسية وتعقيدا؟

لأنه يتعامل مع إنسان في طور التشكّل، ومع مشاعر هشة، وتجارب غير مكتملة النضج. أي تدخل غير مدروس قد يترك أثرًا طويل المدى. كما أن السلوك لا ينفصل عن البيئة الأسرية، والمدرسية، والمجتمعية، مما يجعل العمل في هذا المجال مسؤولية أخلاقية وإنسانية قبل أن يكون تقنية أو أدوات .

● ما أكثر الأخطاء الشائعة التي يرتكبها الأولياء عند التعامل مع سلوك أطفالهم؟

أكثر الأخطاء شيوعًا هو التعامل مع السلوك بمعزل عن المشاعر. كثيرًا ما نركّز على “ماذا فعل الطفل؟” وننسى أن نسأل “لماذا فعل ذلك؟”. إضافة إلى المقارنة، الصراخ، التهديد، أو انتظار نتائج فورية دون صبر أو استمرارية، وهي كلها أساليب تُربك الطفل أكثر مما تُعدّل سلوكه.

● إلى أي مدى يؤثر وعي الأسرة وثقافتها التربوية في نجاح عملية تعديل السلوك؟

الأسرة هي حجر الأساس. كلما كان وعيها أكبر، كانت عملية تعديل السلوك أسهل وأعمق أثرًا. الطفل لا يتغيّر داخل جلسة أو ورشة فقط، بل يتغيّر في بيته، في طريقة الخطاب، في نظرة والديه له، وفي شعوره بأنه مقبول حتى وهو يخطئ.

● كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحزم والاحتواء في تربية الطفل دون الوقوع في القسوة أو الإفراط في التدليل؟

الحزم لا يعني القسوة، والاحتواء لا يعني التسيّب. التوازن يتحقق عندما تكون القواعد واضحة، لكن بروح إنسانية. أن أضع حدودًا، وأشرحها، وألتزم بها، وفي الوقت نفسه أستمع لطفلي وأعترف بمشاعره، حتى عندما أرفض سلوكه.

● المراهقة مرحلة دقيقة، كيف تنصحين الأولياء بمرافقة أبنائهم خلالها دون صدام أو توتر؟

أنصحهم أولًا بالإنصات أكثر من الكلام،"أُذن تُصغي و قلب يفهم" وبالتخلّي عن دور “المراقب” لصالح دور “المرافق”. المراهق لا يحتاج إلى من يذكّره بأخطائه، بل إلى من يشعره بالأمان، ويثق به، ويمنحه مساحة ليخطئ ويتعلّم دون خوف أو إهانة.

● هل لاحظت تغيرا في أنماط سلوك الأطفال والمراهقين في السنوات الأخيرة؟ وما الأسباب الرئيسية لذلك؟

نعم، هناك تغيّر واضح. الأطفال اليوم أكثر توترًا، والمراهقون أكثر حساسية. الأسباب متعددة: تسارع الحياة، الضغط المدرسي، غياب الحوار داخل الأسرة، والتعرّض المبكر والمكثّف للتكنولوجيا. كل هذا ينعكس سلوكيًا ونفسيًا.

● ما تأثير التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي على السلوك النفسي والتربوي للأطفال والمراهقين؟

التكنولوجيا سلاح ذو حدّين. قد تكون وسيلة تعلّم وتعبير، لكنها تصبح خطرة عندما تحلّ محلّ الحوار واللعب والعلاقات الحقيقية. الإفراط فيها يضعف التركيز، ويشوّش الهوية، ويجعل الطفل أو المراهق يعيش مقارنة دائمة تُرهق نفسيته.

● من موقعك كمحاضِرة في التنمية الذاتية، كيف ترين العلاقة بين التربية السليمة وبناء شخصية متوازنة؟

التربية السليمة هي الخطوة الأولى لشخصية متوازنة. طفل يشعر بالأمان، يُسمح له بالتعبير، ويتعلّم تحمّل المسؤولية، يكبر وهو واثق من نفسه، قادر على إدارة مشاعره، وبناء علاقات صحية مع الآخرين.

● هل يمكن اعتبار تعديل السلوك وقاية قبل أن يكون علاجا؟ وكيف يمكن تفعيل هذا الدور الوقائي؟

أكيد. تعديل السلوك وقاية بالأساس. كلما بدأنا مبكرًا، وبأساليب واعية، قلّلنا من تفاقم المشاكل لاحقًا. الوقاية تكون بالتربية على القيم، بالحوار، وبالتعامل السليم مع المشاعر منذ الطفولة.

● ما المنهج أو التوجه التربوي الأقرب إلى قناعاتك في العمل مع الأطفال والمراهقين؟

أميل إلى التوجّه القائم على التربية الإيجابية والذكاء العاطفي، الذي يرى الطفل إنسانًا كامل القيمة، لا مشروع تصحيح. منهج يحترم الإيقاع النفسي لكل طفل، ويؤمن بأن السلوك رسالة لا مشكلة في حد ذاته.


● ما أهم الثمرات التي حصدتها من هذا المسار، سواء على المستوى الإنساني أو المهني؟

أهم ثمرة هي الثقة. ثقة الأطفال، وامتنان الأولياء، وشعوري بأنني أُحدث فرقًا ولو بسيطًا. إنسانيًا، تعلّمت التواضع والصبر، ومهنيًا، تعلّمت أن التأثير الحقيقي لا يُقاس بالأرقام بل بالقصص.

● هل هناك حالة نجاح معينة ما تزال راسخة في ذاكرتك وتشعرين بالفخر تجاهها؟

نعم، حالات كثيرة، لكن أكثرها تأثيرًا تلك التي تحوّل فيها طفل كان يُوصَف بـ“الصعب” إلى طفل متصالح مع ذاته، فقط لأن أحدًا قرر أن يفهمه بدل أن يعاقبه. هذه اللحظات هي وقود الاستمرار.

● إلى أي مدى تلقى اختصاصات التنمية الذاتية وتعديل السلوك قبولا ورواجا في المجتمع التونسي اليوم؟

القبول في تزايد، خاصة بعد أن بدأت الأسر تلمس الحاجة الحقيقية لهذا النوع من المرافقة. ما زلنا في مرحلة وعي متدرّج، لكن الخطوة الأهم هي كسر فكرة أن طلب المساعدة ضعف.

● هل تغيرت نظرة المجتمع التونسي إلى هذه الاختصاصات مقارنة بالسنوات الماضية؟

نعم، تغيّرت نسبيًا. سابقًا كان يُنظر إليها بتشكّك، أما اليوم فهناك انفتاح أكبر، خاصة مع ارتفاع التحديات التربوية والنفسية التي تواجه الأسرة.

● ما أبرز العراقيل التي ما تزال تعيق انتشار ثقافة الإرشاد والتوجيه التربوي في تونس؟

من أبرز العراقيل الخوف من الوصم، وضعف التوعية، وأحيانًا غياب التنسيق بين المختصين والمؤسسات. كما أن بعض المغالطات حول التربية الحديثة ما تزال راسخة.

● كيف تقيمين دور المؤسسات التربوية والمدرسة في دعم السلوك السوي لدى الطفل أو التأثير فيه سلبا؟

المدرسة شريك أساسي. يمكن أن تكون مساحة أمان ودعم، أو مصدر ضغط وإقصاء. عندما يكون هناك وعي تربوي وتعاون مع الأسرة، يصبح تأثيرها إيجابيًا جدًا.

● هل تجدين تعاونا حقيقيا بين المختصين والأولياء، أم ما زال هناك حاجز نفسي أو ثقافي؟

هناك تعاون، لكنه ليس دائمًا بالسلاسة المطلوبة. أحيانًا يكون الحاجز هو الخوف من اللوم أو الشعور بالذنب. عندما يُبنى التعاون على الثقة لا على الإدانة، تختفي هذه الحواجز.

● ما أكثر المفاهيم أو الرسائل الخاطئة التي يروج لها المجتمع حول التربية الحديثة من وجهة نظرك؟

أن التربية الحديثة تعني غياب الحزم، أو أن الطفل “يفعل ما يشاء”. في الحقيقة، التربية الحديثة مسؤولية أكبر، لأنها تتطلب وعيًا، وصبرًا، وحضورًا دائمًا.

● كيف يمكن للمربي أو الولي التمييز بين السلوك العابر والمشكلة السلوكية التي تتطلب تدخلا مختصا؟

السلوك العابر مرتبط بمرحلة أو ظرف، ويزول مع الوقت. أما المشكلة السلوكية فتتكرر، وتؤثر في حياة الطفل وعلاقاته. هنا يصبح التدخل المختص ضرورة لا خيارًا.

● ما دور الإعلام في نشر الوعي التربوي؟ وهل يقوم بهذا الدور كما ينبغي؟

الإعلام له دور محوري. عندما يُقدَّم المحتوى التربوي بصدق ومسؤولية، يصل إلى شرائح واسعة. ما نحتاجه أكثر هو إعلام توعوي، لا تهويلي، يُقارب القضايا بعمق وإنسانية.


● إلى أي مدى أسهمت تجربتك الشخصية في تشكيل رؤيتك المهنية وتطوير أسلوبك في العمل؟

تجربتي الشخصية كانت حجر الزاوية. جعلتني أقرب للناس، أكثر تفهّمًا، وأقل حكمًا. علّمتني أن كل نظرية تحتاج قلبًا يطبّقها قبل العقل.

● ما النصيحة التي كنت تتمنين سماعها في بداياتك المهنية ولم تتح لك الفرصة لسماعها؟

أن الطريق ليس سهلًا، وأن الشك جزء من النمو، وأن التأثير الحقيقي يحتاج وقتًا وصبرًا. لو سمعت هذه النصيحة مبكرًا، لخفّفت عن نفسي كثيرًا.

● كيف تحافظ إيمان عبيدي على توازنها النفسي في مجال يتسم بالضغط وكثرة المسؤوليات؟

أحافظ على توازني بالعودة إلى ذاتي، وبوضع حدود صحية، وبالاعتراف بأنني إنسانة قبل أن أكون مختصّة. أؤمن أن من لا يعتني بنفسه لا يمكنه أن يعتني بالآخرين.

● ما المشاريع أو الطموحات التي تسعين إلى تحقيقها مستقبلا في مجال التربية وتعديل السلوك؟

أطمح إلى توسيع دائرة الأثر، من خلال مشاريع تربوية تجمع بين التكوين، والمرافقة، والإعلام الهادف. أحلم بفضاءات آمنة تُعنى بالطفل والأسرة معًا، وتُقدّم التربية بأسلوب مبسّط، قريب من الواقع، بعيد عن التعقيد والتنظير. كما أسعى إلى تعزيز العمل الوقائي عبر ورشات توعوية وبرامج إعلامية تُعيد للتربية بعدها الإنساني، وتمنح الأولياء الثقة في دورهم وقدرتهم على التغيير.

● في الختام، ما الرسالة التي توجهينها لكل أسرة تونسية تسعى إلى تربية طفل سليم نفسيا ومتوازن سلوكيا؟

رسالتي لكل أسرة تونسية: لا تبحثوا عن الكمال، بل عن الوعي. أطفالكم لا يحتاجون إلى أولياء بلا أخطاء، بل إلى أولياء يُحبّون، يُنصتون، ويعتذرون عندما يخطئون. تذكّروا أن الأمان النفسي هو الأساس، وأن الطفل الذي يشعر بأنه مقبول ومفهوم، يكبر متوازنًا وقادرًا على مواجهة الحياة بثقة. التربية رحلة، وليست سباقًا، وما يُزرع اليوم بمحبة، يُثمر غدًا إنسانًا سليمًا من الداخل.

بكل صدق و محبة إيمان عبيدي

إستثمر في صغيرك

_______________________________________

في ختام هذا الحوار، تتضح صورة ايمان عبيدي كما هي: انسانة اختارت ان تكون جسرا لا قاضيا، ورفيقة لا سلطة، وصوتا هادئا في ضجيج التوجيه والاحكام. حديثها لا يعد بالمثالية، لكنه يراكم الوعي، ولا يدعي امتلاك الحقيقة، بل يدعو الى البحث عنها داخل تفاصيل الحياة اليومية للاسرة.
من بين اسطر هذا الحوار، نخرج بقناعة راسخة: ان التربية فعل شجاعة، وان تعديل السلوك ليس كسرا للطفل بل انقاذا له، وان الامان النفسي ليس رفاهية بل حق اصيل.
ايمان عبيدي لا تكتب رسالتها بالحبر، بل بالاثر، اثر يبقى خفيفا في شكله، عميقا في صداه، تماما كما تؤمن هي 
"ما يزرع بمحبة لا يضيع".


تعليقات