📁 أخر المشاركات

بين أصابع الأب وأجنحة الكلمات… رمال عبد اللاوي تكشف سر الرحلة - حاورها سعدون التميمي

بين أصابع الأب وأجنحة الكلمات… رمال تكشف سر الرحلة

لم تكن رِمال عبد اللاوي يومًا ابنة الريف فحسب، بل ابنة الضوء المنبعث من يد أبيها وهي توقظ الفجر من بين أغصان الزيتون. هناك، في "أولاد حفوز" لم تتعلّم الحروف في المدارس فقط، بل تعلّمتها من تنهيدة شجرة، ومن صلاة النسوة تحت الشمس، ومن خطوات رجلٍ كان يربّي الأرض كما يربّي طفلة تتعلم المشي.

في هذا الحوار، لا نفتح سيرة كاتبة فحسب، بل نفتح أبواب طفولة تختبئ فيها رائحة الزيتون، ونمرّ على دروبٍ صنعت منها امرأة تحمل الكلمة كما يحمل العاشق قلبه. هنا، تتكلم رمال عن طفولتها التي تسكنها، وعن الكتابة حين صارت قدرًا يطفو فوق جراح الفقد، وعن المسعدي حين زلزل لغتها، وعن النصوص التي وُلدت من صمتٍ يضيء، وعن مستقبلٍ تحلم فيه بجنس أدبي جديد… يكتب الأب كأنّه نجمة لا تطفئها العتمة.

__________________________________


مجلة بويب الثقافية

حوار مع الكاتبة و الشاعرة التونسية رِمال عبد اللاوي

حاوره | سعدون التميمي

● ولدت في "أولاد حفوز" ... كيف تصفين رائحة الطفولة هناك ؟ وماأول صورة لاتزال عالقة في ذاكرتك رغم مرور الزمن ؟

رائحة الطفولة هناك تشبه يد أبي مزيج من ترابٍ فجرّيّ وزيت زيتون دافئ ، الصورة التي لا تفارقني هي خطواته وهو يوقظ الأرض كل صباح ، يلمس الأغصان كأنّها كائنات حيّة تخبره أسرارها.

● نشأتِ في عائلة فلاحية… كيف كانت علاقتك الأولى بأشجار الزيتون؟ وهل كان هذا الفضاء معلّمك الأول؟
كانت شجرة الزيتون أستاذتي الأولى ، تعلّمت منها الصبر والثبات والقدرة على الإثمار رغم القحط ، كنت أجلس تحتها كمن يجلس في حضن أمّ ثانية.

● ما المشهد الريفي الذي ترك أثرًا في روحك وأعاد تشكيل حساسيتك ككاتبة؟
المشهد الذي يسكنني : النسوة وهنّ يلتقطن الزيتون بتؤدة المحبّات ، إيقاع يشبه صلاة خفيفة فوق تراب الأرض . ذلك المشهد صنع إيقاع كتابتي.

● ما اسم المدرسة التي نطقتِ فيها أول حرف؟ وكيف كان شعورك وأنت تكتشفين عالم الحروف لأول مرة؟
مدرسة النجاح ، بناها جدّي حجرًا فوق حجر ، وتبرّع بالأرض التي قامت عليها.
كنت أدخلها كأنّني أدخل بيتًا من دمنا ، أوّل يوم لي لا أنساه: أخذني والدي من يدي وضعني في المقعد الأوّل بطمأنينته المعهودة ، ونظر إليّ بفخرٍ صامت. شعرت أنّ الحرف نافذة تفتح لي على عوالم جديدة ،وأنّني أرتّب حجارة جدّي بكلماتي.

هل كانت لكِ علاقة خاصة بمعلم أو معلمة أثّرت فيك؟ ومن من أساتذتكِ ترك فيك أثرًا عميقًا؟
نعم كانت معلمي بسمة أوّل من رأت فيّ ما لم أره في نفسي، وقالت لي يومًا: “حروفك ناعمة… لكنّها لا تنكسر،وكلّ معلمّي و أساتذتي الذين درسوني تركوا فيّ أثرًا حقيقيًا،لكنّ أساتذة الفلسفة كانوا العلامة الفارقة ،فتحوا لي نوافذ على أسئلة لم أكن أملك لها اسمًا، وجعلوني أرى العالم بعينٍ أخرى.

● ألعاب الطفولة… ماذا كنت تلعبين؟ ومن رفيقات شقاوتك؟
كنت ألعب ككلّ الأطفال، أركض وأقفز في البراري لأسمع صدى الطفولة يتردّد، وضحكت ما يكفي لتغيير شكل النهار.

● هل تتذكرين موقفًا طفوليًا مشاغبًا ما زال يضحكك؟
تسلّقت شجرة زيتون عالية لأقلّد أخي، فعلقت هناك لساعات طويلة ،بكيت وضحكت في الوقت نفسه. قال لي أبي بعدها: "من يريد أن يرى أبعد… لا يخاف من السقوط".

لو عاد بك الزمن ليوم واحد، أي يوم تختارين؟
اليوم الذي أمسك فيه أبي يدي وسرنا معًا بين الأشجار… كان العالم بسيطًا، وكان قلبي أكبر من عمري.

اكتشاف الكتابة… من الوجدان إلى الورق

● متى أدركتِ أن الكتابة قدر وليست هواية؟
عندما فقدت أبي… أدركت أنّ الكلمات وطنٌ ينقذني من الغرق.

● هل تتذكرين أول نص كتبته؟ وكيف بدأت شرارة الكتابة تسري في داخلك؟
أول نص كتبته كان وأنا في السنة السادسة ابتدائ، يومها كنّا نحاول حلّ مسألة في الرياضيات، بينما كنتُ أحاول حلّ مسألة أخرى داخل قلبي. تركتُ الأرقام وبدأت أكتب شيئًا يشبهني أكثر.
لمحني المعلّم، فأمسكني وأنا غارقة في الكلمات بدل الأرقام. خفتُ كثيرًا… ظننت أنّ التأديب ينتظرني خلف الباب. لكن حين جاء وقت الراحة، حدث ما لم أتوقعه: رأيت معلمي يقرأ نصي أمام باقي المعلّمين، وكأنّ كلماتي الصغيرة وجدت فجأة جناحين.
من هناك بدأت الرحلة، ووُلد في داخلي ذلك الشعور الغامض بأنّ الكتابة ليست هواية،بل طريق أعمق مما كنت أتخيّل.

هل كانت البداية شعرًا أم سردًا؟
البداية كانت السرد،كنت أحتاج مساحة أعمق للكشف، وصفحاتٍ تتّسع لفوضاي وأسئلتي، ثم جاء الشعر لاحقًا كنبضٍ يلخّص ما تعجز السرديات الطويلة عن قوله.

من الكاتب الذي هزّك وأسهم في تشكيل أسلوبك؟
الكاتب الذي هزّ كياني هو محمود المسعدي… من عمالقة الأدب الذهني، أسلوبه فلسفي صوفي عميق، ورمزي يحمل في طياته روح الدين والحياة. يقول المسعدي: "الأدب مأساة أو لا يكون". وجدت في كلماته مرآة لروحي، وحبلًا يربط بين الوجود والعدم،بين الجرح والنور.كلّ جملة منه تبدو صلاة وكلمة، سؤالًا وتأملًا، كأنّها تتلو دعاءً للحياة وللفقد معًا.أسلوبه ألهمني أن أكتب من الداخل، أن أختبر الألم بعين القلم قبل العين البشرية، وأن أصنع من الجرح عمقًا خالدًا ومن الفقد نورًا مضيئًا يلامس قلب القارئ وروحه.
في حضوره،تعلمت أنّ الأدب ليس مجرد سرد بل رحلة نحو الذات والكينونة، حيث يتلاقى الفكر بالوجد، والعقل بالروح، والرمز بالدين.
ما الكتب التي كوّنت ذائقتك؟
أول الكتب التي قرأتها وأثّرت فيّ بشكل عميق كانت لمحمود المسعدي: "السد", "مولد النسيان", و*"حدث أبو هريرة قال"*… كتبٌ حملتني إلى أعماق الفكر والوجود، وجعلتني أكتشف جمال السرد الذي يمزج بين التاريخ والفلسفة والرمزية. إلى جانبها، استلهمت أيضًا من جبران، أحلام مستغانمي، درويش، ومحفوظ… وما زلت أعود إليهم كلما احتجت مصباحًا داخليًا يضيء لي طريق الكتابة.
هل كتبتِ سرًا قبل أن تكتبي علنًا؟
نعم … كانت لديّ دفاتر أختبئ فيها من العالم.
هل أنت مدينة لكاتب أو مدرسة أدبية؟
مدينة لكل حرف أنقذني في لحظة ما.الخروج إلى العالم… لحظة الاعتراف
لمن اعترفت أولًا بأنك كاتبة؟ وما ردّة الفعل؟
لم أعترف لأحد،بل أقنعت نفسي أولًا، همست لروحي بأنني أكتب لأجل أن أعيش، لأجل أن أرى وجهي في كلمات لم تُكتب بعد. وعندما أقنعت نفسي بصدق ما في داخلي، خرجت إلى العالم… حاملة كلماتي كما يحمل العاشق قلبه على راحتيه، لتجد صداها بين الآخرين.
هل خفتِ من ردود الأفعال في البداية؟
طبعًا كنت أخاف أن يعرف الناس هشاشتي.
● ما الجنس الأدبي الذي زارك أولًا؟
الرواية… ثم الشعر… ثم القصة، حتى أصبحت كل الأدوات الأدبية بيتي الذي أستظل فيه.
● أول عبارة سمعتها عن كتاباتك وبقيت محفورة؟
"أنتِ لا تكتبين… أنتِ تنزفين".
● متى شعرتِ بأنك خرجتِ إلى العالم ككاتبة؟
عندما حملت أوّل نسخة من ديواني… شعرت أنني ولدت من جديد.
المسار الأدبي… مشاركات وجوائز وإصدارات
● أي مشاركة كانت الأبرز في مسارك؟
مشاركتي في منتدى زغوان… شعرت فيه أن أحدًا يرى قلبي لا نصوصي فقط.
ما الحدث الذي كان منعطفًا في رحلتك؟
كنت وقتها ما زلت طفلة تَضيع بين رفوف المكتبة العمومية ،حتى جاء فوزي بجائزة القصة القصيرة، فشعرت لأول مرة أن صمتي المكتوب يلمس العالم، وأنّ صوتي الصغير يمكن أن يجد طريقه بين الصفحات والقلوب.
هل الجوائز تهمّك؟
تحصّلت على عدة جوائز… جائزة الأديبات الشابات، الساحلين للشعر، منتدى القصة بزغوان، وغيرها من أوسمة تلمع على رفوف الذاكرة.لكن اليوم لم تعد الجوائز تعنيني… ما يهمّني هو أن تصل كلماتي إلى قلب واحد يقرأ، يتألم، ويشعر، ويعيش معي لحظة الحقيقة الصافية فالكلمة التي تهزّ روحًا واحدة أقوى من كل الأوسمة والمراتب.
أهم الجوائز التي تحصّلت عليها؟
جائزة زغوان للقصة
جائزة الأديبات بالساحلين للشعر
جوائز وطنية للمرأة المبدعة
شهادات تقدير عربية ودولية عديدة
● حدّثينا عن إصداراتك؟
كل إصدار هو غرفة في بيتي الداخلي:
كلمات الصمت: مجموعتي الشعرية الأولى… وجعي الذي نطق رغم الصمت.
امرأة الليل: رواية كتبتها من ظلٍّ طويل وجرحٍ أعمق… رواية وُلدت من منطقة معتمة في روحي، عن امرأة تمشي في العتمة كي تعثر على صوتها، وتحاول أن تفكّ عقدة الخوف من ذاتها ومن العالم.
● ماذا أخذ منكِ التعليم وماذا منحك؟
التعليم مهنة القلب أخذ وقتي… ومنحني معنى.
هل أبعدك التعليم عن الثقافة؟
أبدًا… كان جسرًا نحوها.
● كيف يؤثر التلاميذ على كتابتك؟
يمنحونني طاقة طفولية وفي أحيان أخرى يرهقونني، لكنّي أحب هذا الإرهاق.
ما الدروس التي أسقطتها على الأدب؟
أنّ لكلّ روح بابًا يجب أن يُفتح برفق ، وكذلك النص.المستقبل… مشاريع وأسئلة معلّقة
● ما مشاريعك الحالية؟
أعمل على رواية جديدة عن امرأة تبحث عن يد أبيها في مدينة مزدحمة.
ما الهاجس الذي لم تكتبينه بعد؟
الصلح مع الفقد… ربما يحتاج عمرًا كاملًا.
هل ستجربين جنسًا أدبيًا جديدًا؟
نعم سأخلق جنسًا أدبيًا خاصًا بي، يختبر الفقد ويحتضن والدي، يكتب عنه كما لو كانت الكلمات جسرًا بين الروح والغياب. نصوصا تنبض بالوجع والحنين، تعانق الصمت وتحوّله إلى حضور، لتصبح الكتابة تجربة لم يسبق أن عاشت قبلها أوراق أخرى… جنس جديد يكتب عن الأب والغياب والحب الذي لا يموت.
● كيف ترين الأدب التونسي اليوم؟
في حالة نهوض جميلة… وهناك أصوات شابة تبشّر بجيل جديد، وأنا جزء من هذا الضوء.
ما رسالتك للجيل الجديد؟
اكتبوا بصدق، لا تقلّدوا أحدًا… دعوا الجرح يقودكم إلى الحقيقة.

___________________________________

وهكذا تمضي رِمال عبد اللاوي في رحلتها: طفلة تمشي تحت الزيتون، وامرأة تكتب فوق الوجع، وكاتبة تصنع من الفقد بابًا نحو النور. كلّ خطوة في حياتها كانت جملةً ناقصة تبحث عن نهايتها، وكل نصّ كانت تكتبه كان محاولة لترميم هواء قديم تركه الأب بين الأغصان.

تغلق رِمال الحوار كما تغلق كتابًا مبللًا بالحنين، وتترك للقارئ وصيّتها الأبدية:
أن نكتب… لا لنقول كلامًا جديدًا، بل لنستعيد أصوات الذين أحببناهم،
أن نكتب… لأن الأرواح لا تُشفى إلا حين تستعيد لغتها، وأن نمضي جميعًا، مثلها، نحو الضوء ولو عبر أعمق ظلالنا.

سعدون التميمي













تعليقات