📁 أخر المشاركات

الشيخ العربي التبسي… صوت الإصلاح الذي أُذيب في الزيت المغلي

 




الشيخ العربي التبسي… صوت الإصلاح الذي أُذيب في الزيت المغلي

في سجلّ البطولات الجزائرية، يقف اسم الشيخ العربي التبسي شامخاً كقمة جبل، لا تنحني لرياح الاحتلال ولا ترهبها آلة القمع الاستعمارية. ذلك العالم الجليل الذي دفع حياته ثمناً لموقفه، فصار رمزاً خالداً للثبات والصبر والجهاد، وأحد ألمع شيوخ الإصلاح في الجزائر والعالم الإسلامي.

وُلِد الشيخ العربي التبسي ليكون عالماً ومصلحاً ومجاهداً، لا مجرد رجل دين ينأى بنفسه عن صرخات شعبه. فقد واصل تعليمه في جامع الزيتونة بتونس، وتخرج منه عام 1914م، قبل أن ينتقل إلى القاهرة عام 1920 باحثاً عن مزيد من التعمق في العلوم الشرعية في الأزهر الشريف. ولقد صنع هذا التكوين المزدوج منه شخصية علمية نادرة، جمعت بين أصالة المالكية ونَفَس الإصلاح المتجدد.

عودة المصلح… وبداية المعركة

عاد الشيخ رحمه الله إلى الجزائر سنة 1927 محمّلاً بنَفَس جديد، واستأنف نشاطه الدعوي والإصلاحي. ولما اندلعت شرارة الثورة الجزائرية عام 1954، كان من أوائل العلماء الذين دعموا المجاهدين، وحرّضوا الناس على الجهاد والثبات في وجه الاحتلال الفرنسي.

ولم يتردد أصدقاؤه في مطالبته بالخروج من الجزائر حفاظاً على حياته، لكنه كان أكثر ثباتاً من أن يغادر. قال قولته المشهورة:
"إذا كنا سنخرج كلنا خوفاً من الموت، فمن يبقى مع الشعب؟"

بل بلغ به الحماس أن صرح:
"لو كنت في صحتي وشبابي ما جلست يوماً واحداً في المدينة، ولأسرعت إلى الجبل فأحمل السلاح وأقاتل مع المجاهدين."

الخطر يقترب… وقرار التصفية

كان المستعمر يدرك جيداً أن الشيخ العربي التبسي ليس مجرد عالم، بل رمز يجتمع حوله الناس، وصوت شرعي يدعم الثورة. ولذلك حاول الفرنسيون مراراً التفاوض معه لإيقاف دعم المجاهدين، لكنه رفض بإباء:
"تفاوضوا مع من يحمل السلاح… أما أنا فلا أتحدث باسم الأمة في غير ما تريده."

وحين عجزوا عن استمالته، رأوا أن التخلص منه ضرورة، لكنهم خافوا أن يؤدي اغتياله علناً إلى إشعال الغضب الشعبي. فاختاروا طريقاً أقسى… وأحطّ.

ليلة الاختطاف… وبداية المأساة

يروي المجاهد أحمد الزمولي عن "إبراهيم البوسعادي" – أحد أفراد فرقة "القبعات الحمر" – تفاصيل خطف الشيخ، وكيف حضر عملية تعذيبه وإعدامه، لتكون تلك اللحظة سبباً في التحاقه بصفوف المجاهدين.

فقد أُخِذ الشيخ من بيته، ثم سُلّم لفرقة من جنود الاحتلال تولت تعذيبه أياماً كاملة. ظل الشيخ صامتاً، ثابتاً، محتسباً، بينما كان قائد الفرقة (لاقايارد) يزداد غيظاً من صبره.

الاستشهاد… في قدر الزيت المغلي

في يوم من أفظع أيام الاستعمار الفرنسي، أُعدّ قِدر كبير ملئ بزيت السيارات والإسفلت الأسود، فأُضرمت النار تحته حتى بلغ درجة الغليان. وكان الجنود يعذبون الشيخ دون رحمة، بينما لم يسمعوا منه سوى ترديده الهادئ لكلمة الشهادة:

"لا إله إلا الله… محمد رسول الله."

ثم حمله أربعة جنود، وأوثقوا يديه ورجليه، ورفعوه فوق القدر. عرضوا عليه التفاوض، وتهدئة الشعب، والاعتراف بالهزيمة… لكنه صمد.

وما هي إلا لحظات حتى أُغرق جسده الطاهر شيئاً فشيئاً في الزيت المتأجج، فأغمي عليه ثم احترق، وتلاشى في مشهد لا ينساه من شاهده.

رجل يساوي أمة

لم يكن الشيخ العربي التبسي مجرد عالم مالكي أو أمين عام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. كان روح الثورة الجزائرية، وصوت الحق الذي عجز الاحتلال عن إسكات صداه.

لقد أحرقوا جسده، لكنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا فكره، ولا أن يمحوا أثره في قلوب الأمة.

غفر الله له، وتقبله في عداد الشهداء والصالحين، وجعل سيرته ناراً على كل ظالم، ونوراً لكل حر.


تعليقات