نهر بويب… من جدول صغير إلى أسطورة صنعها الشعر ومصدر إلهام لمجلتنا
مجلة بويب الثقافية
قد لا يبدو نهر بويب نهرا بالمعنى الجغرافي الواسع، فهو مجرد جدول مائي صغير في منطقة أبو الخصيب جنوب العراق. ومع ذلك، أصبح واحدا من أشهر الأسماء الحاضرة في الذاكرة الشعرية العربية، لا لجغرافيته، بل للأسطورة الوجدانية التي صاغها الشاعر الكبير بدر شاكر السياب حوله.
فبفضل السياب، تحول هذا الجدول الضيق إلى رمز للوطن والطفولة والحنين، وتحول اسمه إلى نهر أدبي خالد يتجاوز حجمه الحقيقي.
والشهرة التي اكتسبها بويب لم تأت من فيضانه أو امتداده، بل من فيض الشعر الذي أغدقه السياب عليه. فقد عاد الشاعر إليه في كل قصيدة تبحث عن جذورها، وكل مقطع يحن لخطوات الطفولة بين النخيل.
في شعره، كان بويب نبضا داخليا، يسري كالمطر في الدم، ويوقظ وجدانا مشتعلا بالذكريات.
حتى أن الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين وصفه عند زيارته بأنه "خيط ناشف من الماء بين النخيل"، في تأكيد واضح على أن الأسطورة هنا أدبية خالصة، صنعها السياب بقدرته على تحويل الواقع البسيط إلى رمزية كونية.
ويرتبط بويب بمدينة جيكور، مسقط رأس السياب، حيث تشكلت أولى ملامح ذاكرته الشعرية. هناك، بين البيوت الطينية والسعف والظلال، كان بويب جزءا من الحياة اليومية، قبل أن يصبح جزءا من القصيدة.
لقد غادر السياب المكان بالجسد، لكنه حمل بويب معه روحا وصورة ورمزا.
ويظهر بويب في قصائد السياب ككائن حي، تارة يفيض بالضوء، وتارة بالدمع، وتارة بالموت والحياة معا. ومن أشهر مقاطعه الخالدة:
بويب… يا بويب
يا نهري الحزين كالمطر
أود لو عدوت في الظلام
أشد قبضتي تحملان شوق عام...
بهذه اللغة، غدا بويب أكثر من جدول مائي:
صار مرآة للطفولة ، ورمزًا للوطن ، وملجأً للذاكرة ، وبوابةً للحياة والموت.
إنه مثال على كيف يصنع الشعر من المكان البسيط عالما أسطوريا.
ولأن مجلة بويب الثقافية تؤمن أن الأدب العظيم قادر على أن يصنع من الأشياء الصغيرة معاني كبيرة.
اخترنا اسم "بويب" لأن هذا الجدول الصغير الذي خلده السياب يمثل بالنسبة لنا روح الإبداع الذي لا يحتاج إلى ضخامة ليكون مؤثرًا ورمزية الأصالة والانتماء والذاكرة العربية وقدرة الشعر والأدب على تحويل التفاصيل البسيطة إلى جمال خالد وإيماننا بأن الثقافة يمكن أن تنبع من مكان صغير، لكنها تصل إلى العالم كله.
ولقد صار بويب بالنسبة لنا رمزًا لرسالتنا:
أن نبحث عن الجمال في التفاصيل، وأن نمنح الكلمة قوتها مهما بدت بسيطة، وأن تكون مجلتنا جدولًا صغيرًا يفيض بالضوء في سماء الأدب والثقافة.
هكذا، يبقى نهر بويب أكبر شاهد على قوة الشعر، وعلى قدرة الكلمات على منح الخلود لما قد يبدو عابرا أو بسيطًا.
وبقدر ما خلد السياب نهره الصغير، نحاول نحن في مجلة بويب أن نخلد أثر الثقافة، وأن نكون استمرارا لتلك الروح التي ترى في الأدب نافذة على العالم، مهما كان مصدر النبع صغيرا.

اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع