بين السودان وتونس… رحلة كاتب يبحث عن وطن لا تغتاله الحروب
في عالمٍ يفيض بالوجع السوداني، وتتراكم فيه الأسئلة أكثر مما تتّسع له الذاكرة، يطلّ الروائي محمد عبدالله عبدالله أبكر، ابن السودان المقيم في تونس، بصوته الذي يعبر حواجز الحرب والمنفى ليحمل معه ما تبقى من الحلم، وما لا يزال قابلاً للضياء.
كاتبٌ تشكّلت علاقته بالكتابة من شرارة مبكرة، من دفء القراءة وشغف البدايات، ثم من ذلك الشعور العميق بأن الكلمة قد تكون الملاذ الوحيد والنافذة الأخيرة التي يطلّ منها الإنسان على نفسه وعلى العالم. لحظة نشره لعمله الأول عام 2020 كانت أشبه بولادة جديدة، إعلان انتماء لعالم السرد، وانخراط في معركة طويلة بين الذاكرة والقلم.
في هذا الحوار، نتوقف معه عند طفولته الأدبية، ونقترب من أسماء صنعت وعيه، ومن نصوص ظلّت تُشكّل نبرة صوته وهو يبحث عن طريقه الخاص. كما نذهب معه إلى السودان الجريح، كما يراه بعين ابنٍ لم يفصل بينه وبين وطنه سوى الحدود، ولكنه ما زال ينبض به نبضاً بعد نبض.
نستكشف رؤيته للمشهد الأدبي، وتأملاته في مستقبل البلاد، ثم نرافقه في مسيرته داخل تونس؛ تلك المحطة التي فتحت له باباً جديداً للكتابة، وللاحتكاك بثقافة نابضة بالحياة والحوار.
هو حوار بين المنفى والذاكرة… بين الكاتب والوجع… بين السؤال والبحث عن معنى الكتابة في زمن الخراب.
___________________________________
لنبدأ من البداية… كيف تشكّلت علاقتك الأولى مع الكتابة؟
تشكّلت علاقتي مع الكتابة من خلال مزيج من القراءة المكثفة، والشغف الشخصي، حيث كانت الكتابة بالنسبة لي وسيلة يومية، حتي تحولت إلي دافع للتعبير، وكانت لدي رسالة لا يمكن أن أوصلها للمجتمع إلا عن طريق الكتابة.
وما اللحظة التي شعرت فيها بأنك تنتمي إلى عالم الرواية؟
عندما نشرت أول أعمالي بدار المني 2020م، حينها شعرت بأن لدي إنتماء في عالم الرواية، وكانت لحظة شعور وإحساس جميل جداً في حياتي.
ما أول نص كتبته، وهل ما زلت تحتفظ به؟
"قست عليهم الحياة نتيجة الظروف الاقتصادية و الاجتماعية الصعبة.. هربوا إلي الشوارع.. ناموا تحت الكباري.. يلتحفون السماء غطاءً.. ويمتدون علي الأرصفة.. لم يتوقعوا أن التشرد في انتظارهم بعدما سقطوا في قبضة من لا يرحم.. تم استغلالهم في التسول والسرقة.. والأبشع وقوعهم ضحايا لذئاب بشرية هتكوا أعراضهم..
نعم ما زلت محتفظ به، وهذا النص موجود في روايتي أطفال الشوارع..
من هم الكتّاب أو الروائيون الذين تركوا أثرهم الأكبر عليك في مرحلة التكوين؟
الكاتب الروائي/ عبد العزيز بركه ساكن، هذا الإنسان الجميل بالنسبة لي ليس ككاتب فقط، بل وإنما هو بمثابة الأب الروحي،
مُنذ الصغر لقد تألقت به، وبدأ عشقي لهذا الكاتب بروايته الشهيره الجنقو مسامير الأرض، هذه من أكثر الروايات التي أعود إليها، تبدو وكأنها تُخاطب حياتي الخاصة، وأشعر دائمًا بالتهميش، لقد ترك هذا الكاتب بصمته عليّ أثناء محاولتي تطوير صوتي الأدبي الخاص.
هل ترى نفسك امتداداً لمدرسة أدبية معينة، أم أنك كوّنت صوتك الخاص بعيداً عن التأثر المباشر؟
لا أرى نفسي إمتداد لمدرسة ما، بل وإنما كونت صوتي الخاص بعيداً عن التأثر المباشر.
كيف تقرأ المشهد السوداني اليوم في ظل الظروف السياسية والإنسانية العصيبة التي تمر بها البلاد؟
الوضع الراهن الماشي مقلق جداً مما يعانيه الشعب السوداني من الحرب تجسد الكراهية وإنتصار لثقافة الموت والنهب والإبادة الجماعية، الحرب تفاقم للفقر وتولد المجاعات والأوبئة، وتترك جروحاً مفتوحة لا تندمل في ذاكرة الشعب، فالحرب السودانية حرب عبثية بين الجنرالات، ولكن الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر ودفع ثمن الحرب، مواطنون يتعرضون للانتهاكات، أطفال يموتون بالجوع، وملايين من الأطفال خارج العملية التعليمية، فتن بين أبناء الوطن وتهدد وحدته ووجوده، مطامع تتزايد من دول الجوار وجهات أخرى في أرض وثروات هذه البلاد، جنرالات أشعلوا حربًا باتت تهدد الوطن في وحدته، مات فيها مئات الألوف من الأبرياء وتشرّد الناس في المنافي وفقدوا كل شئ حتي مستقبل أطفالهم وتشتت شمل أسرهم لا يزال السودان يعيش أزمة وطنية عميقة وشاملة طبعت كل أوجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية في الدولة السودانية، ما نراه هو مظاهر تجلي الأزمة وليس جوهرها، والمتمثلة في تفاقم وإستدامة الحرب، وسيطرة أنظمة الاستبداد والطغيان، وعدم الإستقرار السياسي والاجتماعي نتيجة تعاقب الانقلابات العسكرية، والأزمة السودانية، ليست عابرة أو مؤقتة، وإنما هي مزمنة تمتد جذورها من فجر الاستقلال إلي يومنا هذا، عندما لم يتم التصدي للمهام والوظائف التأسيسية للدولة السودانية المستقلة حديثاً، فظلت مؤجلة ومتراكمة، ثم تفاقمت وتعقدت بالمعالجات القاصرة والخاطئة على أيدي الأنظمة المدنية والعسكرية التي تعاقبت على الحكم طيلة الفترة الممتدة مُنذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، والتي لم تركز إلا على مسألة بقائها في السلطة، مما جعل السودان يبدو وكأنه يعيش فترة إنتقالية مُنذ الاستقلال وحتى اليوم.
باعتبارك كاتباً يتكئ على الذاكرة السودانية، كيف أثرت هذه الأحداث على رؤيتك الإبداعية؟
لقد أثرت الأحداث السودانية على الإبداع من خلال شل الحراك الثقافي وتدمير المؤسسات الإعلامية والثقافية، ورغم أن الإبداع قد يُولد من رحم الألم، إلا أن الحرب شلّت الفكر والإبداع بسبب بشاعتها وتدميرها للمقرات الثقافية والإعلامية، مما أثّر سلبًا على المشهد الثقافي والإبداعي.
هل ترى أن الأدب قادر على ترميم ما تهدم داخل الإنسان السوداني وسط هذه المحنة؟
نعم، الأدب قادر على لعب دور محوري في ترميم ما تهدم داخل الإنسان السوداني.
من موقعك اليوم خارج السودان، كيف تتصور مستقبل البلاد خلال السنوات الخمس القادمة؟
إنهاء الصراع وتحقيق الاستقرار السياسي، وهو ما سيتيح إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية والاستفادة من موارد البلاد الطبيعية، لكن قد يواجه صعوبات في الانتقال إلى حكم مدني دائم، ولكنه يمتلك إمكانيات كبيرة للنمو الاقتصادي.
ما أكثر ما يقلقك في الراهن السوداني، وما أكثر ما يمنحك بصيص أمل؟
إن ما يقلق في الراهن السوداني يتمثل في الصراع الدائر بين الجيش وقوات الدعم السريع، مما أدى إلى أزمة إنسانية واسعة النطاق، وما يمنحي هو الصمود والتنوع الثقافي والاجتماعي المترسخ في التاريخ.
برأيك، هل ما يزال للمثقف السوداني دور فاعل في تشكيل الوعي العام وسط هذا الانهيار؟
لا يزال دور المثقف السوداني مهمًا في تشكيل الوعي العام، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب الانهيار الحالي الذي أدى إلى تضرر الوعي الجمعي وسقوط بعض المثقفين في فخاخ الانتماءات الأولية. ومع ذلك، يمكن للمثقف أن يلعب دورًا فاعلًا كجسر يربط بين المكونات الاجتماعية المتنوعة، ويقدم حلولًا عملية، ويساهم في تحويل التنوع إلى مصدر قوة بدلاً من انقسام، لمواجهة الفوضى وتحقيق الاستقرار والعدالة.
كيف تصف الحالة الأدبية في السودان قبل الحرب… وهل ما زالت قادرة على الاستمرار الآن؟
تميز الأدب السوداني قبل الحرب بالانتقال من الأدب الشعبي والشفوي الذي يعبر عن المقاومة الوطنية، نعم قادرة علي الاستمرار.
ما الذي يميز الرواية السودانية اليوم عن غيرها في العالم العربي؟
اهتمامها العميق بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للسودان، وتنوعها الكبير في تناول قضايا إجتماعية وسياسية مهمة، تقدم أصواتًا جديدة ومختلفة تعكس تحولات المجتمع السوداني، والسردية بدمج اللهجات المحلية في السياق الفصيح.
هل ترى أن الأصوات الأدبية السودانية الجديدة قادرة على حمل الشعلة رغم الظروف القاسية؟
نعم، بل وإنما هذه الظروف القاسية قد ولدت مادة خصبة ودفعتهم لمزيد من التعبير، لأن الأدب أداة للثورة والتعبير.
كيف أثرت الهجرة والنزوح الكبير للكتّاب على الإنتاج الأدبي؟
في توسيع الأفق وتنوع الأساليب الجديدة والأفكار الإنسانية والفكرية.
في رأيك، هل يحصل الأدب السوداني على حقه من التقدير والانتشار عربياً؟
لا، وذلك بسبب مشاكل متعددة منها ضعف دور النشر، ونقص الدعاية والتوزيع، وضعف الاهتمام بالترجمة، إضافة إلى ضعف دعم الدولة والنقد الأدبي. على الرغم من وجود أعمال أدبية عميقة ورفيعة المستوى، مثل أعمال الطيب صالح، فإن الأدب السوداني لم يحظَ بالانتشار اللازم مقارنة بإنتاجه الأدبي الغزير.
ما أبرز التحديات التي تواجه الكاتب السوداني من حيث النشر، الجوائز، والفرص الثقافية؟
تحديات كبيرة من حيث النشر تتمثل في قلة دور النشر المحلية وضعف البنية الثقافية، والتحديات من حيث الجوائز، تتمثل في عدم وجود جوائز كافية أو مؤسسات ثقافية تدعم الأدب السوداني وتعترف به على نطاق واسع محلياً، كل ذلك بسبب ضعف التواصل والتسويق الأدبي، وعدم وجود دعم كافٍ لمشاركاتهم.
كيف بدأت رحلتك إلى تونس، وما الذي دفعك لاختيار هذا البلد تحديداً؟
أحياناً الإنسان يضطر للهجرة لأسباب مختلفة، فرارًا من واقع خلفه وراءه، أما الدافع هو التاريخ العريق الذي يزخر تونس الخضار بالمواقع الأثرية الرومانية والفينيقية، مثل حضارة قرطاج، والمزيج الفريد من الثقافات العربية والأمازيغية يظهر في فن الطبخ والموسيقى والهندسة المعمارية.
ما الذي اكتشفته في المشهد الثقافي التونسي، وكيف أثّر عليك ككاتب روائي؟
المشهد الثقافي التونسي يمثل بوتقة تنصهر فيها التحديات الاجتماعية والتاريخ العريق والتطلعات المستقبلية، مما يجعله تربة خصبة، ولكنها أثرت علىّ من خلال تراثها وحراكها الاجتماعي والسياسي، وتأثيراتها الثقافية المتنوعة، كما أن البيئة الأدبية التونسية توفر مناخاً إبداعياً فريداً.
هل وجدت في تونس بيئة تساعدك على الكتابة والاستمرار في مشاريعك الأدبية؟
نعم، بالرغم وجود بعض التحديات المتعلقة بالدعم والنشر، لكن هناك العديد من المؤسسات والمبادرات التي تساعد الكتّاب على الاستمرار في المشاريع الأدبية: مثل بيت الرواية، التي تصدر كتباً توثق تجارب الكتاب وتوفر فضاءات للنقاش والإبداع، وجمعية ابن رشيق للإبداع الأدبي، التي تعمل علي ورشات الكتابة الإبداعية التي تهدف إلى تكوين وصناعة الروائيين والقصاصين وتشجيع المواهب، فتونس تساعد الكتّاب الطموحين على متابعة مشاريعهم.
إلى أي حد تختلف نظرة المجتمع التونسي للأدب والكتاب مقارنة بالسودان؟
للأدب دور محوري في تونس، حيث يُعتبر أداة لتطوير الوعي الوطني وتخيّل مستقبل المجتمع، بينما يتميز الأدب السوداني بوجود احترام متأصل للكلمة المنطوقة، ويعتبر الأدب الشفهي التقليدي مكوناً أساسياً في فسيفساء الثقافة والهوية السودانية المتعددة.
ما هي أبرز الأنشطة الأدبية أو الثقافية التي شاركت فيها في تونس؟
شاركت في الندوة الصحفية الخاصة بالدورة 39 لمعرض تونس الدولي للكتاب في 17 أفريل 2025 بمسرح المبدعين الشبان في مدينة الثقافة، تحت شعار: نقرأ لنبني.
هل ساعدتك الإقامة في تونس على رؤية أكثر اتساعاً للعالم العربي وثقافاته؟
نعم، تتمتع تونس برؤية أوسع للعالم العربي بسبب موقعها الجغرافي الذي جعلها ملتقى للحضارات، وتأثيراتها الثقافية المتنوعة: العربية، الأوروبية، الأفريقية.
كيف تتعامل مع الكتابة في أوقات التوتر والحروب؟ وهل تُعد الكتابة بالنسبة لك فعلاً للمقاومة والبقاء؟
لتفريغ المشاعر بحرية، وإخراج الأفكار والمشاعر دون القلق، لأن الكتابة هي المهدئ الوحيد بالنسبة لي، نعم، تُعد الكتابة فعلًا للمقاومة والبقاء، فهي وسيلة لمواجهة الفناء، والتعبير عن الذات، وتوثيق الوجود في عالم متغير، فالكتابة مقاومة سلاحًا فتاك ضد القمع والظلم، والكتابة وسيلة للحياة، ووسيلة لتجاوز الموت، والكتابة وسيلة للتعبير عن المشاعر التي لا يستطيع الفرد البوح بها شفهيًا.
ما هي مشاريعك الروائية القادمة، وهل تنوي تناول السودان وتحوّلاته الأخيرة في أحد أعمالك؟
لدي مشروع ضخم سيصدر قريباً إن شاء الله، لا أريد أن أفصح فيه الأن، نعم جُل رواياتي تتحدث عن قضايا سودانية سواء كانت إجتماعية أو سياسية، وأخيراً أقول: يا إبن أدم كن كالشمعة التي إحترقت عبر النضال والكفاح، لتضئ للآخرين دروبهم، وأصرخ في زمن الصمت والخيانة والنفاق، وكن كالنار التي تُحرق عشش القش والفساد، وإختار الموت على الحياة، لأن الموت حياة للآخرين.
___________________________________
هكذا يمضي الروائي محمد عبدالله عبدالله أبكر في حديثه كما يمضي في كتابته: صادقاً، متوهجاً، محمولاً على أكتاف التجربة والألم والأمل معاً. بين السودان الذي يسكنه ولا يغادره، وبين تونس التي منحته فسحة للكتابة والتنفس، يكتب الرجل سرديته الخاصة التي تنحت مكانها في المشهد العربي رغم كل التحديات.
ما يقوله عن الأدب ودوره، وعن الحرب وعبثيتها، وعن الكتابة كمقاومة وبقاء، ليس مجرد رأي؛ بل خلاصة إنسان عاش في قلب النار، وشهد على التحولات الكبرى التي تعيد تشكيل هوية وطن بأكمله.
ورغم قتامة الواقع السوداني، يظل أبكر مؤمناً بأن للكلمة دوراً لا يسقط، وأن الأدب قادر ولو ببطء على ترميم الشروخ العميقة في الروح السودانية. هو إيمان لا يولد من رفاهية، بل من تجربة كاتب يرى في السرد ضوءاً، وفي الحكاية خلاصاً، وفي الكتابة حياة تُقاوم الموت.
يبقى صوته، مثل أصوات كثير من أبناء السودان، شاهداً على زمن، وممهداً لطريق.
ويبقى الأدب، كما يؤمن هو، آخر ما يمكن أن ينقذنا من العتمة… وأول ما يمكن أن يعيد لنا قدرتنا على الحلم.







اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع