الشعر والمقاومة: منى بعزاوي تضيء دروب الحرية
في كل مرة نقترب فيها من عالم الشاعرة والباحثة منى بعزاوي، نشعر وكأننا نلامس طبقات خفية من الذاكرة والتجربة والبحث عن المعنى. امرأة خرجت من رحم الريف القيرواني لتكتب قصيدتها الأولى بين جدران المبيت الثانوي، وهناك ولدت وحدتها الأولى… وولد معها الشعر. ليست مجرد صوت يكتب، بل ذات تقاوم وتنهض وتعيد تشكيل هوية كاملة بالكلمة والمعرفة. في هذا الحوار، نفتح معها دفاتر الطفولة، أبواب البحث، وممرات القصيدة ،لنكتشف كيف تصبح الكتابة قدرا، وكيف تصنع المبدعة حين يكون جذرها الأول هو المقاومة.
__________________________________
حوار خاص مع الكاتبة والباحة والشاعرة التونسية القديرة "منى بعزاوي"
✹ لنبدأ من الجذور… أين وُلدت منى بعزاوي، وكيف أثّر المكان الأول في تكوينك الإنساني والشعري؟
منى بعزاوي من مواليد 1985 بمعتمدية الشراردة من ولاية القيروان، ترعرت في ربوع الريف القيرواني وسط تحديات كبرى في عائلة بسيطة . تسلحت بحب العلم و المقاومة بمساعدة جدي المرحو الحاج بلقاسم بوزيان رحمه الله. علمني كل أبجديات الحياة و فلسفتها من أول حرف إلى آخره. دخلت المبيت الثانوي في سن مبكرة و سكنت جدرانه لسنوات حتى أيقنت بأهمية الوحدة في ظل غياب الدفء الأسري... منذ ذلك الشعور بدأت في خط بعض الأبيات التي كانت وليدة لحظات الوحدة بين جدران المبيت....
✹ متى شعرتِ لأول مرة أنّ الكتابة قدرك وليست مجرد هواية؟
عندما أيقنت أن الألم مسكون في داخلي و أن الوحدة سندي المعنوي و الروحي. شعرت آنذاك أن الكتابة هي قدري و أنّ التخلص منها شيء شبه مستحيل.
✹ هل تتذكّرين أول نص كتبتهِ؟ وكيف تنظرين إليه اليوم؟
أول نص كتبته كان عن الحرية لكوني كنت أتوق إلى نيل الحرية و الخروج من سجن المبيت الثانوي. كنت أبحث آنذاك عن الحرية و التحرر من كافة القيود و الضغوطات و إلى اليوم أعتبره أجمل نص.
✹ من هي الشخصيات أو التجارب التي شكّلت بداياتك في الشعر والبحث الثقافي؟
في الحقيقة كنت أقرأ كثيرا للشاعر القدير الماغوط و الشاعر نزار قباني و كتابات نوال السعداوي و أحلام مستغانمي و كتابات آنا فرويد في علم النفس ولا أعتبر نفسي تأثرت بهم في كتاباتي الشعرية لأنني بقيت في حيّز ثقافة المقاومة التي تعلمتها من جدي المرحوم. سلكت دربي بنفسي دون السقوط في التبعية الثقافية أوالفكرية.
✹ كيف استطعتِ التوفيق بين البحث الأكاديمي والإلهام الشعري في سنوات التكوين الأولى؟
البحث الأكاديمي و الإلهام الشعري خطان متوازيان في حياتي و ربما كان الفضل للشعر بأن سلكت درب التعلم و التخصص في الأدب و الحضارة العربية. كنت أكتب الأشعار و أمزقها في اللحظة ذاتها بحثا عن التحرر و الحرية و ما كنت أهتم كثيرا بالتفوق الأكاديمي لأنني كنت أرفض التقيّد بأي شيء في الحياة. الشعر كان سليل روحي و فكري. كان داعمي النفسي بحثا مني عن
التوازن.
✹ كيف تصفين عالمك الشعري؟ وهل ترين أنك تميلين إلى مدرسة أو تيار شعري معيّن؟
أشهد أنني خطيت كلماتي بصدق و بقلم أصدق. عبرت عن كل ما يختلج الذات الإنسانية من قضايا و أحاسيس دون مساحيق أو زيف ولا أنتمي إلى أي مدرسة. مازلت في الخطوات الأولى....
✹ ما القضايا أو الثيمات التي تلاحق قلمك باستمرار؟
اهتممت أكثر بقضايا عصري و أولها القضية الفلسطينية و قضايا مقاومة الاستبداد و الظلم بكل تجلياته.
✹ ما الأصعب بالنسبة إليك: كتابة قصيدة قصيرة مكثّفة أم نص طويل مفتوح؟ ولماذا؟
الشاعر يترجم أحاسيسه بكل الأساليب لأنه متحرر داخل المشاعر و داخل القصيدة. أحيانا بيت واحد يترجم مرارة حياة كاملة و أحيانا نص طويل يستمر في ذهنك كأنك تواجه الدهر...
✹ هل ترين أنّ الشعر ما زال قادراً على التأثير في زمن السرعة والمنصات؟
لقد تجاوزنا عصر الشعر و الأدب بمراحل كثيرة لكن يبقى الشعر ملهم لصاحبه و عمليات التأثير اليوم في ظل تطور عالم الرقمنة و عالم الصورة و العالم الافتراضي قليل و ذلك لسبب بسيط و هو أن الزيف تغلب على الصدق في عصرنا اليوم.
✹ ما الشعراء الذين أثّروا فيك فكرياً وجمالياً، محلياً وعربياً وعالمياً
قرأت للعديد من الشعراء و القامات الفكرية في العالم لكنني تأثرت فقط بفلسفة جدي المرحوم ومازلت أستلهم الرؤى من مدرسته.
✹ ما أهم إصداراتك الشعرية والبحثية؟ وما الكتاب الأقرب إلى قلبك؟
أصدرت 11 مؤلفا بين الشعر و الأدب فضلا عن العديد من المقالات العلمية على غرار عشق و جنون و عشق و جزاء و عشق يراقص القدر و قصيدة بلا عنوان و الأرض التي لن تموت و كتاب في أدب الرحلة إلى إيران و أعتبر أن ديواني الشعري عشق و جزاء هو الأقرب إلى ذاتي لاعتبار أن ضريبة الصدق باهظة الثمن.
✹ هل تفكرين في خوض تجربة الكتابة الروائية أو السردية مستقبلاً؟
نعم أفكر في كتابة رواية و مازالت الرؤية غير جلية الآن.
ما التجربة التي مررتِ بها أثناء إعداد أو نشر أول كتاب
جلها تجارب تكتسي لباس الصبر و التحدي.
✹ كيف تصفين علاقتك بالكتابة: هل هي لحظة انخطاف أم مشروع عمل طويل وصبر؟
علاقة يمكن وصفها بمشروع مقاومة في ظل التحديات الماضية و الراهنة.
✹ ما الجديد الذي تعملين عليه الآن على مستوى الإبداع أو البحث؟
أصدرت منذ أشهر قصة للأطفال حول فلسطين بعنوان الأرض التي لن تموت و مازلت لم أفكر في عنوان جديد مستقبلا لأن الكتابة رهينة الواقع و البحث عن الأفق...
✹ ما أبرز المهرجانات الشعرية أو الثقافية التي شاركتِ فيها داخل تونس وخارجها؟
شاركت في بعض المهرجانات الوطنية على غرار صالون الفنون و الثقافات و ملتقى عليسة الدولي للمبدعات و دوليا أذكر مهرجان المقاومة بطهران و مهرجان الخدمة الرضوية بمدينة مشهد بإيران لأن ظهوري قليل و هو اختيار مني.
✹ كيف ترين واقع المهرجانات الثقافية في تونس اليوم؟
واقع ضرير يعاني من عديد التحديات. لقد طمسوا من خلالها قيمة المبدع و همشوا الكفاءات إلى أبعد الحدود. ليس لدينا مهرجانات عريقة ذات صبغة ثقافية إبداعية في الأغلب هي مهرجات تجارية تجرى بالمحاباة و العلاقات و المصالح الشخصية. أتذكر أنني غادرت أغلب هذه المهرجانات منذ سنة 2014 بعدما أيقنت أنها مهرجانات في ظاهرها فنون و ثقافة لكن باطنها دعارة و تجارة.
✹ هل تعتقدين أن حضور الشعر في الفعاليات الثقافية يحتاج إلى إعادة صياغة؟
المشهد الثقافي برمته بحاجة إلى وضع إستراتيجية استشرافية كاملة. بقينا سجناء داخل سجن الرداءة و لإصلاح هذه المنظومة علينا أولا التسلح بالإرادة القوية لبناء مستقبل أفضل. لا شيء اليوم يستهوينا ...
✹ شاركتِ في العديد من الملتقيات الدولية… ما التجربة التي تركت أثراً خاصاً لديك؟
شاركت منذ أشهر في المؤتمر الدولي للخدمة الرضوية بمدينة مشهد المقدسة و كنت في ضيافة فخامة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان و اكتشفت فعلا قيمة الأدب و الثقافي في إيران سيّما للشباب. هذه التجربة تركت انطباعا جيدا في ذاكرتي و تعلمت من الإيرانيين الكثير سيما أدب الحكمة.
✹ ما تقييمك لدور المؤسسات الثقافية في دعم الأصوات الشعرية الجديدة؟
المؤسسات الثقافية في حد ذاتها بحاجة إلى الدعم. عندما تنقذ نفسها ستتمكن حينها من إنقاذ مبدعيها.
✹ أنتِ باحثة في الحضارات والثقافات… ما الذي دفعكِ إلى هذا التخصّص تحديداً؟
دفعني القدر حتى أصطدم بالحضارات و الثقافات لا أعرف إن كان حبا للانفتاح أم بحثا عن ذاتي و عن هويتي.
✹ ما أهم الدروس التي يمكن أن نستخلصها من دراسة الحضارات القديمة
الاعتزاز بالهوية و الانتماء و فهم مبدأ المجد وأن تعيش بكرامة دون خضوع أو تبعية فضلا عن كون الحضارة القديمة تعكس قيمة التعايش السلمي و تعزز وجودك الإنساني..
✹ كيف تنظرين إلى تأثير الحضارات القديمة في تونس — من البونية إلى الرومانية — على الهوية الثقافية التونسية الحديثة؟
تونس دولة ماجدة عبر التاريخ تمتلك مخزونا تاريخيا و ثقافيا و إنسانيا عريقا مستمرا في الذاكرة الجماعية و الثقافية إلى اليوم من خلال استحضار شخصية حنبعل كمثال و رمزية الانتصار. إذ إن تونس بقيت محافظة على هويتها التاريخية و نجحت في كسب مرحلة من مراحل القيادة و الاستقرار بحكمة وثبات.
✹ ما الحضارة التي تدهشك أكثر في أبحاثك، ولماذا؟
الحضارة الإسلامية التي كانت و مازالت رمز المجد و القوة لكونها أقوى حضارة على وجه الأرض فهي تتميز بطابع إنساني وفكر معتدل و عادل.
✹ هل ترين أن التونسي اليوم واعٍ بما فيه الكفاية بإرث بلاده الحضاري؟
لا يمكن تحليل شخصية التونسي بما هو شخصية ممزوجة بعديد الثقافات و الحضارات لكن يمكن القول أنه على درجة من الوعي بمحيطه الثقافي و الاجتماعي و يبحث عن الاستقرار والاعتدال.
✹ في رأيك، ما أوجه التشابه بين العملية الإبداعية الشعرية والبحث في التاريخ والحضارات؟
التاريخ يجرك إلى الكتابة و إلى الفعل الثقافي و الحضارة هي باب نحو البحث عن الهوية كما الشعر كلاهما سلاح ذو حدين و الغلبة فيهما للذات الإلهية التي هي محرك كل شيء. و طبعا الذات الإنسانية تبقى ذات مستخلفة في الأرض. ذات تبحث عن ذاتها وسط التاريخ و الحضارة و وسط ملكات الإحساس.
✹ لو مُنحتِ فرصة لإحياء عنصر حضاري قديم في تونس وإعادته إلى الحياة المعاصرة، ماذا تختارين؟
إحياء الحضارة الإسلامية لتوحيد هذه الأمة و إعادتها إلى مجدها المعهود .
✹ ما السؤال الذي تتمنين لو يطرحه عليك الصحفيون ولم يُطرح من قبل؟
لا يوجد سؤال معين .
✹ كيف ترين مستقبل الثقافة العربية في ظل الذكاء الاصطناعي والتحوّلات الرقمية؟
صرنا كالدمى المتحركة لا ننفع في شيء. المستقبل ليس لنا
أعتبر أنّ مهامنا قد انتهت بفعل فاعل و ربما كما يقولون البقاء للأقوى ..
✹ ما النصيحة التي توجهينها للشباب الذين يرون في الشعر طريقاً، وفي الحضارات مفتاحاً لفهم ذواتهم؟
ركب الشباب متجه نحو عالم آخر و لا نعرف من منا الفائز: نحن جيل الثمانينات أم هم جيل الإنترنت؟
شكرا على الحوار
تحياتي
.jpg)









.jpeg)









اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع