القائمة الرئيسية

الصفحات

وداع على ضفاف كاديكوي - ميرفت القايسي

وداع على ضفاف كاديكوي
ميرفت القايسي/ تونس
الفصل الثاني
كانت الشمس تميل نحو الغروب،
وإسطنبول تلبس ألوانها المسائية:
ذهبي يذوب على البوسفور، وأصوات المآذن تمتزج بنداءات الباعة في المرافئ.

خرجت علياء من مقهى صغير في أسكودار،
حيث جلسا طويلًا يتحدثان عن أشياء كثيرة لا علاقة لها بهما —
عن السفر، عن الكتب، عن المدن التي لا تكتمل إلا إذا شاركك أحد تفاصيلها.
لكن بين كل كلمة وكلمة،
كان هناك صمت يقول أكثر مما يُقال.

مشيا على الكورنيش، والبحر على يسارهما يلمع كمرآةٍ من حرير،
وسفن العبور تمخر المياه نحو كاديكوي.
قالت علياء وهي تنظر إلى الأفق:

 "هل تعرف؟ هذا البحر يشبهنا… يلتقي في المنتصف ثم يعود كلٌّ إلى ضفته."

ابتسم أبو لو ابتسامةً خفيفة،
كمن يفهم ولا يريد أن يعترف.
كانت نبرته هادئة حين قال:

 "لكن الموج لا يتوقف عن العودة، مهما ابتعد."

جلسا على مقعدٍ خشبي في الميناء،
والهواء يحمل رائحة الكستناء المشوية وصوت الموسيقى البعيدة.
كان الليل يهبط ببطء،
وأضواء العبّارات تتلألأ على الماء مثل نجومٍ صغيرة تهرب من السماء إلى البحر.

نظر إليها طويلًا، كما لو كان يحاول أن يخبئ صورتها في ذاكرته.
وقالت هي دون أن تلتفت:

 "لا تقل شيئًا… دع إسطنبول تتكلم عنا."

مرت لحظات صامتة،
ثم نهضت بخفة، وعدّلت معطفها،
وقالت بابتسامةٍ ناعمة:

 "وداعًا يا أبا لو… كان اللقاء في المدينة التي تجمع الغرب بالشرق،
فليكن الوداع فيها أيضًا."

راقبها وهي تمشي نحو العبّارة المتجهة إلى كاديكوي،
شَعرَ أن قلبه يتبعها،
لكن قدميه بقيتا في أسكودار، كأنهما يعرفان أن الرحيل قدره الدائم.

وعندما تحركت العبّارة، رفع نظره نحوها،
كانت واقفة عند الحافة،
والريح تلاعب شعرها،
وفي عينيها مزيج من الحنين والطمأنينة —
كما لو أنها عرفت أخيرًا أن بعض القلوب نحبها، لا لنبقى معها، بل لننضج بها.
Reactions

تعليقات