📁 أخر المشاركات

ابتسامة في الظلام - راضية بصيلة

 


ابتسامة في الظلام الشارع فارغ، والليل ينهال بثقله على الزوايا، كأنّه يريد ابتلاع كل ما لم تتحمّله الأيام. تمشي امرأة تحتضن طفلتها، كأنهما قطعة واحدة من روحها، حنانها مختلط بالخوف، والخوف ينسج الحذر في خطواتها. البرد ينخر العظام قبل أن يلمس الجلد، يتسلّل بصمت، كرسالة خفية بأن العالم لا يرحم، وأن الحياة أحيانًا تختبرنا بأقسى وجوهها. المصباح يتدلّى بضوء أصفر باهت، ضوء كالحلم، يكاد لا يرى الطريق، لكنه يكفي لتخبرها أنّها ليست وحيدة، وأن هناك شيئًا حيًّا يلتصق بها، صغيرًا لكنه صامد. الماضي وجدّتها، ومرودها القديم في حقيبتها، كلّها أحجار صغيرة في نهر حياتها، تذكّرها أنّ المرأة لا تُهزم، حتى حين يبدو العالم بلا رحمة. ارتجفت الطفلة على صدرها. الارتجاف أعاد ترتيب قلب الأم، جعلها تشعر أنّ الحياة لا تزال تُطلب بصوت خافت، وأن الدفء الصغير قد يكون كل ما يحتاجه الإنسان ليصمد أمام الليل الطويل. على الرصيف، سلّة قوارير مكسورة، أشباح زجاجية قرب دكان مغلق. توقفت نظرتها عندها لحظة، ليس خوفًا من السقوط، بل لاختبار صمتها وصمودها. كانت تعرف أنّها لن تترك الصغيرة هناك، ومع ذلك، أعاد وجود السلة شعور اليأس القديم، شعور يعرفه كل من واجه العالم وحيدًا، شعور يختبئ خلف كل خطوة. أخرجت المرود من حقيبتها. لم يكن مجرد كحل، بل قطعة من تاريخ جدتها، صدى نساء لم يعرفن الاستسلام. مرّرت خطًا رقيقًا على جفنها، كخط بين الضوء والظلام، يذكّرها بأنها موجودة، وأن ملامحها لم تختفِ، حتى وإن حاول العالم أن يبتلعها. فتحت عينيها. الشارع لم يتغيّر، لكن الداخل اختلف: العتمة لم تعد مطلقة، والخوف لم يعد وحده. نظرت إلى الطفلة، فرأت في عينيها لمعة صغيرة، خامدة لكنها حية بما يكفي لتخبرها أنّها ليست وحدها، وأن قلبها لا يزال ينبض رغم كل شيء. ابتسمت ابتسامة قصيرة، صامتة، لكنها مكتملة، تحمل وزنًا كافيًا ليعيد ترتيب المسافة بين الأم والظلام. شدّت الطفلة إلى صدرها، ومضت تسير. لم يخفّ البرد، ولم يزحزح الظلام، لكن خطواتها اكتسبت وزن الحقيقة ووزن القدرة على الاستمرار رغم كل شيء، كأنها تحدّت الليل بذاتها. وفي هذا الشارع الطويل، حيث يبدو الظلام بلا نهاية، سارت امرأة تحمل طفلة، وكان الليل هو الذي ابتعد خطوة، ليفسح لها الطريق، تاركًا الضوء الباهت يعلن صمودها. راضية بصيلة

تعليقات