الدراسة التحليلية النقدية الفلسفية حول لوحة "العشاء الأخير" للفنان التشكيلي الدكتور علاء بشير
الناقدة والباحثة: دنيا صاحب – العراق
العشاء الأخير : مرآة القيم الدينية والإنسانية في التأويل العرفاني
تُعد لوحة "العشاء الأخير" للفنان العراقي الدكتور علاء بشير خطاباً تشكيلياً معاصراً وتاويلاً لإحدى أشهر الأيقونات في تاريخ الفن الغربي، ارتبطت هذه اللوحة تقليدياً بالسياق الديني المسيحي، يقدّم الفنان علاء بشير رؤيته الفلسفية من خلال معالجة فنية مغايرة تتجاوز الأطر الدينية والروحانية التقليدية، من خلال الرموز السريالية المتجلية في مضمون اللوحة
التحليل الفني: السريالية كأداة للتعبير عن الرموز الدينية بين الصدق و الإخلاص- الكذب و الخيانة العظمى للإله.
ينتمي الأسلوب الفني للدكتور علاء بشير إلى المدرسة السريالية الحديثة ، حيث يستخدم الفضاءات الخيالية الواسعة والتدرجات اللونية لإيحاءات عميقة بالمسافات سواء كانت مكانية أو زمانية. تتداخل الأشكال غير الواقعية مع أجسام واقعية، مما يُبرز الحبل المتصل بين الواقع والخيال، ويعبّر عن الصراعات الداخلية للإنسان، تلك التي تنبع من العقل الباطن وتنعكس في أحداث حياته فيسجلها التاريخ عبر الزمن.
يجسّد الفنان علاء بشير في مضمون لوحة 'العشاء الأخير' هذه الرؤية بوضوح، من خلال تصوير الأقدام الملوّنة بتدرجات لونية، وقدمٍ مظلّلة باللون الأسود تبدو منفية خارج إطار الطاولة المستطيلة الشكل في إشارة رمزية عميقة.
يُعيد الفنان علاء بشير تشكيل المشهد التقليدي بأسلوب رمزي فلسفي سريالي، وصوفي، يعزو بأسلوبه إلى ما وراء الواقع الذي يكشف التظليل للحقائق في كتب الديانة المسيحية، يُصوّر اجتماع الحواريين حول المائدة المنزلة من السماء حين طلب تلاميذ السيد المسيح أن ينزل الله عليهم مائدة من سماء تكون لهم آية مباركة عليهم و لتكون برهاناً على إنهم اتباع السيد المسيح في حينها آن ذاك استجاب الله تعالى لدعاء المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، و تُعدّ طاولة المائدة رمزًا لقدرة الله المطلقة في رزق جميع الكائنات الحية التي تأكل من مائدة نعمه الواسعة التي لا تنفد، المنتشرة على وجه المعمورة وهي الأرض.
الآية التي ورد فيها هذا الدعاء في القرآن الكريم هي من سورة المائدة، قال الله تعالى:
﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾
سورة المائدة، الآية 112
﴿قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾
سورة المائدة، الآية 113
﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾
سورة المائدة، الآية 114
هذه الآيات تصوّر موقفًا إيمانيًا رمزيًا عميقًا بين النبي عيسى عليه السلام وحواريّيه، حين طلبوا منه أن يسأل الله إنزال مائدة من السماء، لطمأنة قلوبهم وتعزيز يقينهم. فأمرهم أولًا بالتقوى إن كانوا مؤمنين حقًا ثم استجاب لدعائهم ورفع يديه داعيًا الله بأن ينزل المائدة لتكون لهم عيدًا وآية.
التأويل:
المائدة تمثّل "رزقًا سماويًا" و"آية معجزة إلهية"، وتجسّد حاجة الإنسان إلى الطمأنينة الروحية وارتباط الإيمان باليقين القلبي، فهي ليست معجزة لإشباع الجسد فحسب، بل لتثبيت الإيمان وتوثيق العهد بين العبد وربّه روحياً.
كما ترمز المائدة إلى الحضرة الإلهية التي يتعبّد فيها العباد المقرّبون، وتُحيطهم بنفحات الرعاية والعناية الربانية. فهي لا تمثّل رزقًا ماديًا فقط، بل حضورًا إلهيًا خالصًا، وعلامة على الاصطفاء والنورانية لمن خُصّوا بالقرب وعهد الولاية.
*ابتكر الفنان علاء بشير رموزه الدينية داخل اللوحة على هيئة أقدام حافية تحيط بطاولة المائدة، في إشارة رمزية إلى النداء الإلهي بتحقيق العهد الأول وهي (الشهادة) ذلك هو العهد الذي جرى في عالم الذر النشأة الأولى لخلق بني آدم حين استُخرجت الأرواح من صُلب أبيهم آدم عليه السلام. فقد أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم، وأشهدهم على أنفسهم بألوهيّته وربوبيّته.
كما ورد في قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 172).
وهكذا تُجسّد الأقدام في اللوحة تذكيراً بتلك الشهادة الأولى والدعوة إلى تجسيدها فعلياً في العالم المادي.
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾
(سورة يونس، الآية 2)
تأويل الآية المباركة :
الآية تعبّر عن استغراب الناس من أن يُرسل الله رسولًا من جنسهم، يوحى إليه، لينذرهم ويبشر المؤمنين بوعد عظيم. و"قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ" ترمز إلى المقام الرفيع، والمكانة الثابتة التي أُعدّت للمؤمنين في حضرة الله، وهي علامة على القَبول، والثبات في طريق الحق، والقرب من العناية الإلهية. فـ"قدم الصدق" تعني: الثبوت في موضع الايمان واليقين تنزيه عن الكذب و الخيانة وحصولهم على الكرامة والمنزلة الصادقة التي لا يطالها زيف، فهي رمز للتجليات الإلهية النور، الشفاعة، الاصطفاء، ودخولهم الحضرة الإلهية وهي الجنة في الحياة دنيا والأخرة وكلها معانٍ تدل على صدق الإيمان، وعلو المقام وشأن العبد عند الله.
*يُعرَف الحواريّون بأنهم تلاميذ الأنبياء والمرسلين، والعباد الربانيون هم خلفاء الله في أرضه، من ورثة الأنبياء الائمة أو أتباعهم وأصحابهم، الذين نذروا أنفسهم لدراسة الكتب السماوية والعمل بها وتعليمها للناس. إنهم المُصطفَون من عباده الصالحين وكانوا الحواريين في زمن نبي الله عيسى عليه السلام، وقد
أبرموا عهدهم معه على مائدة النِّعَم الإلهية، يوم جمعهم السيّد المسيح عليه السلام، في عهد ولاية الله خلال زمانه، بعد بعثة نبي الله موسى عليه السلام.
الرمزية والتأويل: المسيح رمزٍ للعبد الرباني لا لإلهٍ يُعبد
في لوحة العشاء الأخير، يُقدّم الفنان علاء بشير شخصية السيد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، لا بوصفه مجرد شخصية دينية تاريخية، بل باعتباره رمزًا للعبد الرباني الذي اصطفاه الله لحمل رسالته إلى أهل الأرض. فهو النبي المرسل والسفير المؤتمن على وحي السماء،ويُمثّل حلقةً من حلقات النور الإلهي في سلسلة الرسالات السماوية التي تجلّت في بعثات الأنبياء والمرسلين جميعًا، أولئك الذين أُرسلوا رحمةً للعالمين وهدايةً للبشرية جمعاء.
يسلّط الفنان علاء بشير الضوء على لحظة الخيانة العظمى حين أمر نبيُّ الله عيسى عليه السلام أتباعه بتدوين آيات الله في كتاب الانجيلٍ يحفظ كلامه وتعاليم شريعته السمحاء ليكون مرجعًا هاديًا ومُبيِّنًا للحق و انه موافقًا لما أنزله الله تعالى في القرآن الكريم من نورٍ وهُدى ورحمة وشفاء وتجليات عقيدة وحدة الوجود . وقد تضمّنت آيات الإنجيل رموزًا وإشارات إلى أقسام العلوم: التشريعية، والتكوينية، والغيبية، وهي ذاتها التي وثّقها الله في كتابه العزيز، القرآن الكريم الجامع لأسرار الكتب السماوية جميعها إذ إن الدين عند الله واحد، وهو منهج عقيدة الإسلام الخالدة.
تأويل مختصر:
تشير الآية الكريمة *> ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾
(سورة آل عمران، الآية 19)*
إلى أن الإسلام هو المنهج الإلهي الخالد، الذي وحَّد جوهر الرسالات السماوية كافة، منذ آدم إلى خاتم الأنبياء محمد ﷺ. فالإسلام هنا لا يُقصد به فقط الشريعة الأخيرة، بل الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، وهو ما اشترك فيه جميع الأنبياء والمرسلين.
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لم تطله يد التحريف، بخلاف ما فعله بعض أتباع الديانتين المنشقة المسيحية واليهودية إذ حرّفوا ما أُملي عليهم من الوحي الإلهي؛ فغيّروا الإنجيل بأقوال وسرديات من تأليفهم، واستبدلوا التوراة بكتابٍ آخر هو "التلمود"، فملؤوه بطلاسم السحر وأباطيل الشياطين، ودوّنوا فيه ما تمليه عليهم أهواؤهم، زاعمين إن الله سيغفر لهم إذا تابوا، ولو بعد حين.
1. قوله تعالى:
*> ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًۭا قَلِيلًۭا ۖ فَوَيْلٌۭ لَّهُمۡ مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيْلٌۭ لَّهُمۡ مِّمَّا يَكۡسِبُونَ﴾
(سورة البقرة، الآية 79)
*
التأويل المختصر:
الآية تُدين تحريف أهل الكتاب للرسالة الإلهية، وادّعاءهم أن ما كتبوه بأيديهم هو من عند الله طمعًا في مكاسب دنيوية زهيدة. والوعيد الإلهي "فويلٌ لهم" هو تهديد بعذاب شديد، جزاءً لما كسبته أيديهم من تدوين وتوثيق الكذب والتضليل ليضلوا الناس عن الحقيقة.
قوله تعالى:
*> ﴿ *وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(سورة البقرة، الآية 101)*
التأويل المختصر:
تبيّن الآية موقف فريق من أهل الكتاب الذين، رغم معرفتهم بحقيقة النبي محمد ﷺ وموافقته لما في كتبهم، أعرضوا عن الحق، ونبذوا كتاب الله كأنهم لا يعلمون شيئًا منه، في إنكارٍ متعمد واستكبار عن اتباع الرسالة المحمدية الخاتمة.
قوله تعالى:
**﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُوا۟ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌۭ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِۦ ۚ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِۦ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ ۚ وَلَقَدْ عَلِمُوا۟ لَمَنِ ٱشْتَرَىٰهُ مَا لَهُۥ فِى ٱلْأَخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍۢ ۚ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا۟ بِهِۦ أَنفُسَهُمْ ۖ لَوْ كَانُوا۟ يَعْلَمُونَ﴾
(سورة البقرة، الآية 102)
التاؤيل المختصر:
لقد خان اليهود عهد الرب، وانحرفوا عن منهج الأنبياء، وضلّوا عن مسار النور الإلهي، باتباعهم سحرة بني إسرائيل الذين آمنوا بطاقات السحر، وتلقّوا تعاليمهم من الشياطين. فنسبوا طلاسم سحرهم زورًا إلى نبي الله سليمان عليه السلام، ظنًّا منهم أن الناس سيُقبلون عليها إن نُسبت إلى نبيّ من أنبياء الله. غير أن الله سبحانه برّأ نبيّه الكريم من هذا الافتراء في كتابه العزيز، وأوضح أن الذين كفروا هم الشياطين، لا سليمان.
فكانت الأناجيل الأربعة المعروفة اليوم — وهي: إنجيل متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا — مجرد سرديات بشرية محدودة الطاقة لا صلة لها بالوحي الإلهي، كُتبت بلغة البشر، لا بلغةٍ إلهيةٍ فيها معجزات مطلقة. وقد دُوّنت بعد أن رفع الله المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، وحين تآمروا على قتله، لم تطل أيديهم جسد المسيح عليه السلام، لأنه عبدٌ ربانيٌّ محفوفٌ بالملائكة الحراس،
الموكَّلين بحمايته من الله سبحانه وتعالى، كما قال في كتابه العزيز:
﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ لَفِى شَكٍّۢ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًۭا﴾
[سورة النساء: 157]
وقد تأثّرت هذه الكتابات بالرؤى الشخصية والتأويلات الخرافة، فلم تحمل طاقة المعجزة أو نور الهداية، كما هو الحال في القرآن الكريم، الكتاب المحفوظ من التحريف، والذي يجمع جوهر الرسالات السماوية كافة. ولهذا، تبدو المسيحية اليوم خاليةً من روح الحقيقة الإلهية، بعيدةً عن الوعي والفكر المقدّس، لأن أتباع هذه الأناجيل الأربعة يعيشون ضمن وعيٍ محدود الأفق، لا يمكّنهم من الوصول إلى معرفة حقيقة الله والوجود، ولا إلى إدراك كنه كيانهم كإنسانٍ مخلوقٍ بإرادة وقدرة من الله سبحانه وتعالى، وفق مبدأ دين الإسلام الحنيف.
القرآن الكريم يتحدث في عدد من الآيات عن تحريف بعض أهل الكتاب للتوراة والإنجيل، التلاميذ الربانيون لكنه لا يتهم جميعهم، بل يشير إلى فئة منهم قامت بتحريف الكلم عن مواضعه، إما بالتأويل الباطل أو التبديل اللفظي أو الكتمان.
١﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾
سورة البقرة، الآية 146
التأويل:
يعرف علماء أهل الكتاب صفات النبي محمد ﷺ كما يعرفون أبناءهم، لكن بعضهم يكتم الحق عمدًا حسدًا أو عنادًا.
٢﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنةُ الله على الكافرين﴾
سورة البقرة، الآية 89
التأويل:
عندما جاءهم النبي الذي يعرفونه في كتبهم، أنكروا نبوّته، فاستحقوا لعنة الله بسبب كفرهم المتعمد.
٣﴿ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق﴾
سورة البقرة، الآية 109
التأويل:
يتمنى بعض أهل الكتاب عودة المسلمين إلى الكفر، ليس لجهلهم بل حسدًا بعد أن تبيّن لهم الحق في الرسالة المحمدية.
٤﴿يحرفون الكلم عن مواضعه﴾
سورة المائدة، الآية 13
التأويل:
يدلّ على أن بعض بني إسرائيل غيّروا ألفاظ التوراة أو معانيها، عمداً، وهو نصّ صريح على وقوع التحريف في كتبهم.
٥﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يُحرّفون الكلم عن مواضعه﴾
سورة المائدة، الآية 13
التأويل:
بسبب نقضهم العهد الإلهي، قست قلوبهم وحرّفوا كلام الله، إمّا بتحوير لفظي أو تشويه معنوي.
٦﴿من الذين هادوا يُحرّفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا﴾
سورة النساء، الآية 46
التأويل:
كشف الله فعل بعض اليهود الذين يغيّرون كلام الله عمداً، ويظهرون السمع والطاعة باللسان بينما يعصون بالقلب.
٧﴿وإنّ منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون﴾
سورة آل عمران، الآية 78
التأويل:
يشير إلى من يلفقون النصوص ويضيفون عليها ما ليس منها، ثم يزعمون أنها من عند الله، كذبًا وزورًا.
٨.﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾
سورة الحجر، الآية 9
التأويل:
في مقابل تحريف الكتب السابقة، حفظ الله القرآن الكريم من كل تحريف أو تبديل، فبقي محفوظًا في ألفاظه ومعانيه.
الله تعالى يؤكِّد بلفظ الجلالة وضمير الجمع للتعظيم: "إنا نحن"، أنه هو من أنزل القرآن الكريم (الذِّكر)، وجعله وحيًا محفوظًا، متعالياً عن التبديل والتحريف، بخلاف ما أصاب الكتب السابقة من التغيير بفعل أيدي بعض أهل الكتاب.
ماذا فعل يهوذا الإسخريوطي؟
كان أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر.
اتفق مع رؤساء اليهود على تسليم
المسيح مقابل ثلاثين قطعة من الفضة.
دلَّ الجنود على مكان المسيح بقبلة، يُقال إنها "قبلة الخيانة".
الموقف في الإسلام:
في العقيدة الإسلامية، لا يُعترف بصلب المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، بل يؤمن المسلمون بأن الله سبحانه وتعالى نجّاه ورفعه إليه، وأن الذي صُلب شُبِّه لهم. وتشير الآيات إلى أن بعض أتباعه خانوه واختلط عليهم الأمر، فجاءت الرواية القرآنية لتؤكد أن عيسى عليه السلام لم يُقتل ولم يُصلب، بل كان رفعه إلى السماء آية من آيات الله.
الدراسة التحليلية النقدية الفلسفية حول لوحة "العشاء الأخير" للفنان التشكيلي الدكتور علاء بشير
الباحثة والناقدة ؛ دنيا صاحب - العرلق
"السيد المسيح عبدُ الله لا إله"
لم يكن عيسى بن مريم عليه السلام إلهًا يُعبد، ولا ابنًا لله كما زعمت الفرق المسيحية بل كان عبدًا لله ونبيًا مصطفًى، أيده الله بروح القدس، وخصّه بمعجزات تدل على نبوته لا على ألوهيته.
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾
[سورة الزخرف، الآية 59]
التأويل:
تُبيِّن هذه الآية الكريمة حقيقة نبي الله عيسى عليه السلام، بأنه عبدٌ لله سبحانه، مكرَّم بالنعمة والرسالة، وقد جعله الله آيةً ومثَلًا لبني إسرائيل. وهي ردٌّ صريح على من نسب إليه الألوهية، حيث تؤكد الآية عبوديته لله وحده، وتنفي أي شراكة له في الربوبية
﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِـَٔايَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّيٓ أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۭا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ ٱلْأَكْمَهَ وَٱلْأبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَـَٔايَةًۭ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾
[سورة آل عمران، الآية 49]
التأويل المختصر:
هذه الآية تجلّي مقام نبي الله عيسى عليه السلام كآية إلهية كبرى، أُيّد بالمعجزات الباهرة: من خلقٍ بإذن الله، وشفاءٍ خارق للعادة، وإحياءٍ للموتى، مما يدل على أن المعجزة لا تكون إلا بإرادة الله، وأن المسيح عبدٌ لله مكرّم، مُرسل لهداية بني إسرائيل، يحمل في معجزاته رحمة، وفي رسالته نورًا من السماء.
وفي مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، يكشف الله زيف هذه المزاعم في الآية الكريمة:
﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 116].
ففي هذا الخطاب الإلهي لعيسى عليه السلام، يتجلى المقام الحقّ للنبي، حيث يسأله الله سؤال تقريع وتوبيخ لأولئك الذين ألهوه هو وأمه، وهو سؤالٌ في ساحة المحاكمة الإلهية، لا لطلب العلم، لأن الله عليم بذات الصدور، بل لكشف الحقيقة أمام الخلق. فيردّ عيسى عليه السلام بكل خشوع وبراءة:
"قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ"، أي: أن تنزيهك يا ربّ يمنعني من أن أقول ما لم تأمرني به، ولم أدّعِ قط ألوهية لنفسي ولا لأمي، بل كنت عبدًا لك، أدعو إلى توحيدك. وهكذا يظهر جليًا أن عقيدة التثليث هي اختلاق بشري دخيل على رسالة المسيح الأصلية، التي كانت قائمة على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له.
فجاء عيسى عليه السلام داعيًا إلى التوحيد الخالص، تابعًا لشريعة موسى عليه السلام، ومبشرًا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد. وحين زاغت بعض الطوائف عن هذه الحقيقة ورفعت النبي إلى مقام الألوهية فإنما فعلت ذلك خيانةً لرسالة السماء، وحين زاغت بعض الطوائف عن هذه الحقيقة، ورفعت النبي إلى مقام الألوهية، فإنما ارتكبت خيانةً لرسالة السماء، وتجاوزًا على جوهر الإيمان بالله وكتبه ورسله، ذلك الإيمان الذي يربط العباد بربهم الواحد الأحد، ويؤسس لعقيدة التوحيد الخالدة.
التناقض الفكري مع المقولة السيد المسيح وحقيقة روح الاسلام مع النظم المادية:
فقرة تحليلية تتناول عقائد وفلسفات إلحادية ومادية تناقض حقيقة روح الإسلام، مع ربطها بمقولة السيد المسيح "أحبوا أعداءكم" لتبيان كيف تمثل تلك المقولة امتدادًا لروح التوحيد والرحمة التي يتضمنها دين الإسلام، مقابل فلسفات تُقصي الإيمان وتُنكر الجوهر الإلهي للوجود:
إن مقولة السيد المسيح عليه السلام "أحبوا أعداءكم" لا يمكن فهمها في سياقها الكامل إلا بوصفها تجلّياً لرسالة التوحيد والإصلاح الإلهي، وهي بذلك تمثّل امتدادًا لروح الإسلام، الذي يدعو إلى الرحمة والصفح، والتسامح ويأمر بالتقوى والعدل. والإحسان حتى مع من يسيء لكنها – في جوهرها – تتناقض تمامًا مع العقائد والفلسفات الإلحادية المعاصرة التي فصلت الإنسان عن ديانات السماوية وجعلت القيم نسبية والمبادئ مرهونة بالامور المادية والسطحية والرغبات والأنانيات.
فـ العقيدة الإلحادية، سواء في صورتها الفلسفية كـ الوجودية الملحدة أو العبثية أو في صيغتها العلمية الزائفة كـ الطبيعية المادية، ترى الكون بلا خالق، والحياة بلا هدف، والإنسان مجرد مادة بيولوجية زائلة. ومن هنا تنبع فلسفة القوة والهيمنة والعداء، إذ لا مبرر للتسامح أو الغفران في عالم بلا حساب أو جزاء. فكيف يمكن أن تُحب عدوك إن لم يكن هناك إيمان بأن وراء هذا الوجود ربًّا رحيمًا يهدي يجازي يحاسب ، يغفر ، ويعاقب المسيء والمذنب على أي حال!؟
الآية التي تبرهن هذا المعنى:
**> ﴿لِيَجْزِيَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍۢ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ﴾
[سورة إبراهيم، الآية 51]*
وتُظهر هذه الآية أن النظام الإلهي قائم على العدل والمحاسبة، مما يضفي المعنى الحقيقي لقيم الغفران والمحبة، إذ تنبع من وعي الإنسان بربٍّ* يُراقب يجازي ويحاسب الانسان بما يصدر منه من اقوال وافعال.
أما المدارس الفكرية المادية كـ الرأسمالية المتوحشة، والليبرالية المطلقة، فتقوم على منطق المنفعة والمصلحة الذاتية، حيث لا مكان للمحبة المجانية أو التسامح المجرد، بل تُقاس القيم بما تحققه من مكاسب دنيوية، وتُختزل العلاقات الإنسانية إلى تبادل مصالح.
إن الإسلام، مثل رسالة المسيح الأصيلة يؤمن بأن الإنسان روحٌ قبل أن يكون جسدًا، وأن العدل والرحمة نابعان من الإيمان بالله، وأن التسامح مع العدو ليس ضعفًا، بل قوة إيمانية تستند إلى يقين في العدل الإلهي وعلوّ أخلاق المؤمن إلى مقام الأحسان في التصوف الإسلامي.
كما قال في الآية المباركة: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
تأويل مختصر للآية:
تشير هذه الآية إلى دقة العدالة الإلهية وشمولها، حيث يُحاسب الإنسان على أدق أعماله، مهما كانت صغيرة. فهي تذكير بأن كل فعل له جزاء، وأن ميزان الحق لا يغفل شيئًا، مما يغرس في النفس الخشية من الله، ويحفّزها على الإخلاص في عمل الخير، والابتعاد عن الشر، ولو كان بمقدار ذرّة.
*لذلك، فإن مقولة "أحبوا أعداءكم" لا يمكن أن تتناغم مع الفكر الإلحادي أو المادي، لأنها دعوة من الوحي الإلهي للسيد المسيح النبيٍ المُرسل، جاء
متممًا لمسيرة الأنبياء، وهي في جوهرها متطابقة مع قوله تعالى:
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34].
تأويل الآية:
أي: قابِل الإساءة بالإحسان والعداوة بالعفو، والجهل بالحلم فذلك أنفع لتهذيب النفوس وتليين القلوب، وإزالة الضغائن وتحويل الكراهية إلى مودة. إن الردّ بالحسنى يُطفئ الخصام ويفتح باب الهداية و الرحمة والمغفرة، ويُجسّد ذروة مكارم الأخلاق في الإسلام، حيث يرتقي بالإنسان إلى مقام الإحسان، وفق المنهج الدين الإسلامي الحنيف.
*الربط مع مقولة السيد المسيح عليه السلام:
وقد ورد عن السيد المسيح عليه السلام قوله:
"أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"
[إنجيل متى 5: 44]
إن مضمون هذه الوصية لا يبتعد عن جوهر ما جاء به القرآن الكريم، فكلا الخطابين يدعوان إلى الترفع عن روح الحقد، العداوة، الانتقام، والتسامِي عن الأذى بالعفو الكريم والتجاوز
وردع الطاقات السلبية بقوة الإيمان بالله، يرتقي بالإنسان إلى ذروة السمو الأخلاقي.
من الناحية الشرعية:
يتناغم هذا المعنى مع روح الشريعة الإسلامية التي تقوم على الرحمة، والمحبة، والسلام، وتحضّ على العفو، وتُعلي من شأن مكارم الأخلاق باعتبارها من ركائز التشريع الإلهي.
وقد قال رسول الله ﷺ:
> "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب."
وجاء في الحديث الشريف:
> "إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق."*
إن دعوة السيد المسيح إلى محبة الأعداء تمثل امتدادًا لنور القيم السماوية التي أنزلها الله لتزكية النفوس، وتطهير القلوب والأرواح، وإصلاح المجتمعات.
وهي تتجلّى بوضوح في الخطاب القرآني المعجز، الذي يجعل من الحلم، والصفح والعفو، سُبلًا إلى ولاية الله ومحبةٍ صادقةٍ تنبض في قلوب المؤمنين العارفين به.
تعليقات
إرسال تعليق
اترك تعليقا يدل على انطباعك ورأيك بالموضوع