القائمة الرئيسية

الصفحات

أسطورةُ القلبِ الذهبيّ - إيمان الكاشف


 أسطورةُ القلبِ الذهبيّ


فكرةُ هذه القصيدةِ اقتبستُها من قصةٍ قصيرةٍ للكاتبِ الفرنسيِّ ألفونس دوديه
Alphonse Daudet
بعنوان "أسطورةُ الرجلِ ذي المخِّ الذهبيّ "La Légende de l'homme à la cervelle d'or ،
ولكني أضفيتُ على قصتي الشعرية بعضَ التغييرات، منها أنَّ البطلةَ هنا امرأةٌ قلبُها من ذهب، وأظنُّ ذلك هو الأقرب إلى المنطق؛ فالمرأةُ رمزُ التضحية، والقلبُ منبعُ العطاء .


أتــت لـلـحـيـــاةِ كـهـــمٍّ جــــديــد
بـلـيــلٍ كـئـيـبٍ كـثـيــرِ الـرعــود

ولـمـَّـا بـهـــا بُـشـِّــرَ الأبُ عــانى
وفـي الـصدرِ خـبَّـأَ غـيظًـا شـديـد

وصــاحَ وبـالـقـلـبِ حـقــدٌ تـجـلَّـى
وبـالعـيـنِ شــرُّ ابــنِ جـنٍّ مَـريــد:

إلــهـــي لــمــاذا رُزئــنــا بــعـــارٍ؟!
لـمـاذا تُــرى مــا رُزقـنـــا ولـيـــد؟!

أرحـنـا مـن الـهــمِّ ربـي وخــذهـا
لـغـيــبٍ أتـت مـن مـداهُ الـبـعـيــد

ومـا كـادَ يـكـمـلُ مــا قــالَ حـتـى
تـعـالـى بـكــاءٌ كـرجـعِ الـنـشـيــد

فراحَ إلـى مصدرِ الصوتِ دَهْـشـًا
لـيـبـصـرَ دمــعَ الـفـتـاةِ الـعـتـيــد

فـقـد كــانَ درًّا وكـانـت عــقــيـقــًا
دمـاءٌ ســرت يـحـتـويـهـا الـوريـد

وبــيـــنَ الـحــنـــايــا تــلألأَ قـلـبٌ
مـن الـتـبــرِ لاحَ كعـِـقــدٍ فــريـــد

فـصـاحَ أبوهـا وفـي العـيـنِ بـشـرٌ:
لـقـد كـنـتُ أهتـفُ: ذا اليـومُ عيـد

ومــرت ســنـونٌ بـأحــلــى فـتـــاةٍ
فصارت كروضِ الربيعِ الـسعـيـد

وكـانَ أبـوهـا يـخـافُ على الـتـبـرِ
مـن يـــدِ لــصٍّ وعـيــنِ حــســود

فـقـد كـانَ فـي عـينِـهِ ثـروةً لـيـسَ
تـفـنـى، ومـن لا يـحـبُّ الـنـقــود؟!

فـقــالَ بــيــومٍ: هَـبــي لـيَ جـزءًا
مـن الـتـبــرِ؛ إنـي لَـشـيـخٌ قـعـيـد

فـقـالـت : أحـبُّ الـعـطـاءَ غــزيـرًا
ومعـنــى حـيـــاتـيَ فـي أن أجــود

أبـي أنـتَ ربـيــتَـنـي فـي صـبـايـا
فـمـن تـبـرِ قـلـبـيَ خـذ مـا تـريــد

وكـانَ أخــوهــا ســفـيـهـًا جَـهــولًا
غـــدا لـلـوامــعِ عــبـــدًا مَــقــــود

أضــاعَ الـنــقــاءَ بــراحٍ وكــــأسٍ
جرى خـلفَ هِـيـفٍ حسـانٍ وغـيـد

ولازمَ حــانـاتِ حــــيٍّ رخـيـــصٍ
وأمـسـى من البيـتِ أشقـى طـريـد

ويـا ويلَ مـن أصـبحـوا للخـطـايـا
مـطـايـا ولـلـشـرِّ أمـسَــوا عـبـيــد!

فـجـــاءَ إلـيــهــا بــدمــعٍ كَــــذوبٍ
يــقــومُ بـــدورِ الـبــريءِ الــودود

وقـالَ: أأخـتــي تــلاشـت نـقـودي
ومـا فـي الـجـيـوبِ لـديَّ رصـيـد

فـهاتـي مـن الـقـلـبِ تـبــرًا قـلـيـلاً
أعـيـني أخـاكِ الصغـيـرَ الـوحـيـد

فـقـالـت: أحــبُّ الـعـطـاءَ غـزيـرًا
ومـعـنى حـيــاتــيَ فـي أن أجــود

أخـي أنـتَ رافـقـتَـنـي فـي صـبايـا
فـمـن تـبـرِ قـلـبـيَ خـذ مـا تـريــد

وفـي لـيـلـةٍ أبـصرت شـمـسَ حبٍّ
تــبـــددُ ظـلـمــةَ حـــزنٍ عـتــيـــد

أحست شـعـورًا سرى فـي دماهـا
تـحـدَّى الـحــدودَ وهــدَّ الـســدود

وفـي سرعـةِ الـبـرقِ زُفَّـت إلـيـهِ
وكـادت تـطـيــرُ بـقـلـبٍ سـعـيـــد

وكـانـت تـظـنُّ الـحـيـاةَ نـعـيــمـًـا
ودفــئـــًا يُــذوِّبُ تـــلَّ الـجـلــيـــد

إلــى أن أتـــى ذاتَ يــومٍ إلــيـهــا
بـــوجـــهٍ كــســـاهُ قـنــاعٌ جــديــد

وقــالَ: أريــدُ الـتـأكـــدَ إن كـــانَ
تــبــرًا أيــا زوجــتــي أم حـديـــد

فــؤادُكِ، أهـدي حـبـيـبـَـكِ جــزءًا
مـن الـتـبــرِ إن كـانَ حـقـًّا يُـفـيــد

فـقـالـت: أحــبُّ الـعـطاءَ غــزيـرًا
ومـعـنـى حـيـــاتـيَ فـي أن أجــود

وكـيـف أردُّكَ؟! أنـتَ قــريــنـــي
وأنـتَ الحـبـيـبُ الأثـيـرُ الـوحـيـد

لـكَ القـلبُ يـنـبِـضُ صـبحـًا ولـيلًا
فـمـن تـبـرِ قـلـبـيَ خــذ مـا تـريــد

وإن كنتَ تـبغي مزيـدًا من الـتـبـرِ
يـا حـبَّ عــمـري هـنـاكَ الـمـزيـد

وظـلـت تــجـودُ بـتــبــرِ الـحـنـايـا
وتبصرُ في الجـودِ نجـمَ الـسُّـعــود

وفـي كــلِّ يــومٍ تــخــورُ قــواهــا
ويـذوِي الـبـريـقُ ويَقوَى الـخـمـود

وكــم لـيــلـــةٍ ســامــرتـهـا دمـوعٌ
بـعـيـنٍ نـأت عـن سـبـيـلِ الـرُّقـود!

إذا داعــبَ الـجـفــنَ نـومٌ أفــاقـت
وقـالـت: سـأسـهــرُ حـتـى يعــود

وإن عـادَ أطـلــقَ ســيــلَ سِــبـابٍ
عـليـهـا وألـقـى بـجـمـرِ الـوعـيــد

وكـم خبـَّأَت فـي الـضلـوعِ أسـاها
لـتـحـيـا بـقـلـبٍ صَـبــورٍ صَـمـود!

وفـي لـمحِ بـرقٍ أتـت ريـحُ موتٍ
طوت زوجَهـا في عميقِ اللـحـود

فما صدَّقَت زوجُهُ الموتَ، راحت
تـشـقُّ الـثـيــابَ وتُـدمـي الـخـدود

وبـالـقلبِ صـاغـت تـمـاثـيـلَ تـبـرٍ
لـحـبٍّ سـيـسـكــنُ روضَ الخـلـود

وكـانـت تـريــدُ الـمــمـاتَ ولـكــن
رأت فـي حـشـاهـا صـباحًا جـديـد

فـعـاشـت لـتـنـجـبَ طـفـلًا يـتيـمًـا
وجــاءَ لــدنـيــا الـشـقـاءِ الـولـيـــد

وشــبَّ الـصـبـيُّ فـأضـحـى فـتـيـًّـا
وكـانـت تــراهُ الـحـبـيـبَ الـفـقـيــد

أحـبـتــه حـبــًّا عـمـيــقـًا عـظـيمـًـا
فـلم يـعـرفِ الـحـبُّ يـومـًا حــدود

وفي عـيـدِها قالَ: أمي اسـمعيـنـي
أعـيـني صـغـيرَكَ ؛ فالـيـومُ عـيـد

فـإنــي أريــــدُ الــزواجَ وبــيــتـي
مـن الضـيقِ أمسى كمثـلِ اللحـود

وجـودُكِ ســوفَ يـُؤَذِّي عـروسي
فـنحِّي عـن الـبـيـتِ هـذا الـوجـود

وقـبــلَ رحـيــلِـكِ هــاتـي كـنــوزًا
فـعـرسـي سـيـحـتاجُ حـتـمـًا نقـود

فـقـالـت: أحــبُّ الـعـطـاءَ غـزيـرًا
ومـعـنــى حـيـاتـيَ فــي أن أجــود

بـنيَّ، أعطرَ الحـبـيـبِ، أعـمـري،
أقــرةَ عـيـني، أطـفـلـي الـوحـيــد

حـيــيـتُ لأجـلِـكَ عــمــرًا طـويلًا
فـمـن تـبــرِ قـلـبـيَ خـذ مـا تـريـد

وإن لـم يكـن فـي الـضلـوعِ مزيـدٌ
من التـبرِ حتـمًا سـيـأتـي الـمـزيـد

وأعـطـتـه تـبـــرًا غـزيـرًا وفـيـرًا
لـتـرحـلَ مـثـلَ الطـريـدِ الـشـريـد

مـشـت لا تـبـالـي لأيـنَ سـتمضي
إلــى أيــنَ دربُ الـحـيـــاةِ يــقــود

وفي سيرِها فكرت لـو شرت باقـةً
مـن زهـــورٍ بــلــونِ الـجــلـيـــــد

لــتُــهــــديَ بـــاقــــةَ وردٍ وفــــلٍّ
لـزوجِ ابـنِها في الزفـافِ الـسعـيـد

وراحـت تـفـتِّـشُ فـي جـيـبِها عـن
نـقــودٍ، فـلـم تــرَ وجــهَ الـنـقــود

فـقـالـت: أيـا بـائـعَ الـوردِ عـندي
مـن الـتــبـــرِ قـلـبٌ ثــريٌّ تـلـيــد

وألـقـت عـلـى كـفِّــهِ فـي اغـتـباطٍ
بـقـايـا بـقـايــا الـفــؤادِ الـشـهــيــد

رمـــادًا تـــنــاثـــرَ بــيـــنَ دمـــاءٍ
ونـبـضٍ ضـعـيـفٍ شـفـيـفٍ يَبـيـد

وفـي شـفـتـيــهـا ابـتـسـامـةُ حـزنٍ
تـحـاولُ رغـمَ الـمـمـاتِ الصمـود

عـلـى أمــلٍ يُـبـعــثُ الـقـلـبُ تـبرًا
لـتــحـيـــا وتــمـنــحَ دونَ حـــدود

سمِعـتُ الحـكـايـةَ فاحـتـارَ عـقـلي
ورحــتُ أفــكــرُ فـيـــمـــا أريــــد

وقـال الصِّحابُ: أما زلتِ تـبغـيـنَ
جـــودًا بــقــلـبٍ قــــويٍّ عــنــيـــد؟

فـقـلـتُ: أحـبُّ الـعـطــاءَ غـزيــرًا
ومـعـنــى حـيـاتـيَ فــي أن أجــود

سـأُهــدي إلـيــهِ حـيــاتـي وقـلـبـي
وفـنـي وشـعـري وهـذا الـقـصـيـد

إيمان الكاشف
25 / 12 / 1999
من ديوان "نورٌ من السماء"
Reactions

تعليقات