القائمة الرئيسية

الصفحات

 


اشتقت لك

بعد سفر طويل للعائلة و تواجدي وحيدا بالمنزل ،استيقظ ذلك الطفل الصغير والمتمرد داخلي ، الذي يكره نظام البيت و ترتيبه، فتعم فوضى عارمة بالمنزل ، الملابس مرمية في كل مكان، قارورات البلاستيك الفارغة في كل ركن من البيت ، أغراضي لها حرية كاملة في اختيار الامكنة التي تناسبها ولن أزعجها أبدا، الأواني المنزلية فقدت أماكنها الاعتيادية ، بعضها جف ريقها وبدأ الصدأ ينخر ذاتها وهي تنظر إلى بودرة بيكربونات الصوديوم والخل الأبيض بجانبها علني أعالجها ، القلة القليلة من الأواني(مقلاة،غلاية،إبريق،صينية ،الطاجين) تعاني من تسلطي وجبروتي عليها يوميا وفي كل حين ، فعلا لم أكن عادلا فيما بين إخوتها ،و أنا الانسان الذي يكره التسلط والظلم وعدم المساواة، أكره ذاتي من حين لآخر عساني أعود إلى طبعي ، بعض البيوت تشتكي للشمس والهواء من حرماني لها ، فقط وحدها الرثيلاء وبعض الحشرات الصغيرة من ترقص فرحا و هي كلها حيوية ونشاط بتواجدي وحيدا معها ،بل منها من حضرت ليوم زفافها و تناسلت و تزايد عدد أفراد أسرتها ،صراحة لم أر منهم سوءا سوى بعضا من الحواجز هنا و هنالك كلما مررت من مكان هجرته لأيام، فتلبسني خيوطها المتدلية لتأمرني بالتوقف وعدم الإزعاج ،لانها تنتظر صيدا ثمينا سيعبر المكان قريبا وقد أفسدت صيدها ، فقط وحدها العناكب والصراصير تكرهني وكرهي لها متبادل، لانها تفسد وحدتي ، انقض عليها كما ينقض التمساح على فريسته كلما تجلى لي ظلها ،أما الوزغ (أبو بريص) "البوحاطي" والذي يرمي بذيله حتى وانت لازلت لم تلمسه بعد ،دفاعا عن نفسه ،فوقعت معه اتفاقا حبيا بعد حرب ضروس شاقة ومتعبة وساد بيننا احترام متبادل، فكلما مررت من مكان تواجده يفتح لي الطريق دون مشاكل وبدوري أتجاهله وسمحت له بالإقامة في طابق خاص به و أضفت اليه سطح المنزل دون واجب كراء .
بمناسبة يوم عطلة ،شمرت على ساعدي وقررت القيام بعمل نظافة وترتيب للمنزل ، صراحة لم أعرف من أين أبدأ ولا أين سانهي عملي ، بدا لي أن الأمر ليس بالسهولة التي كنت أظنها ،في هذه اللحظة بالذات تذكرت الأم والأخت والزوجة والمرأة بصفة عامة، معذرة سيداتي و لتسمحن لنا من شغبنا ،من الفوضى والازعاج الذي نحدثه لكُن و نطلب منكن مسامحتنا على عدم الإعتراف بذلك إلا أخيرا ، فعلا عجزت تماما على القيام بالمهمة ،فالفوضى التي خلقتها في المنزل تتطلب القيام بعقد مع شركة خاصة بالاشغال المنزلية ،حينها قلت مع نفسي على الأقل أرتب أغراضي و الأجهزة و الاشياء المنسية والمتهالكة التي لم تعد صالحة.وجدت جهاز تلفاز قديم تجاوزته الأيام ومزق الغبار الممزوج بالرطوبة جهازه التنفسي لحد الاختناق، صدرت من أعماق صدري تنهيدة قوية ليس أسفا على حاله ولكن لارتباطه بجزء من ماض جميل عشته في بداية حياتي الزوجية، حاولت أن أضخ في شرايينه الروح من جديد فاستجاب فورا لطلبي ،ظهرت صورة ناطقة ليؤكد لي شموخه وكبريائه رغم إهمالي له لسنين طويلة جدا ، بجانبه يرقد في العناية المركزة جهاز فيديو قديم يعمل بأشرطة، و جنبه وجدت شرائط قديمة ومن بينها شرائط متعلقة بيوم خطوبتي ، نفضت عنها الغبار مسحتها جيدا أشعلت جهاز الفيديو لم أتذكر جيدا طريقة عمله ،لكن رغبتي الجامحة في إحياء ذكرى جميلة من عمري جعلتني كنباش محترف أتجول عبر رحاب الذاكرة و أزقتها ،وجدت طريقة تشغيله ،وضعت الشريط بالداخل ،سمعت دوران عجلته وعيناي وهما يراقبان جهاز التلفاز كادا يغادرنا مكانهما بحثا عن صورة تخلد الذكرى ،لحظة سمعت صوتا أعادني لسنين إلى الوراء(تبا لقد ابتلع الجهاز جزءا من الشريط ) ،ضغطت على زر الإيقاف حاولت إخراج الشريط بسلاسة، لقد تجمد و يحتاج لعملية قيصرية لإحيائه ، وضعته في مكان آمن متأسفا على ضياع حفلة شائقة .و غير بعيد عن هذه الأجهزة و جدت جهازا من ثلاثة طوابق ،الأرضي يضم جهاز راديو و الطابق الأول جهاز كاسيت أما الثالث فيتعلق باسطوانة قديمة ،وسطها أسطوانة الموسيقار فريد الأطرش ، وعلى نغمات "اشتقت لك " ثم اختبار الاسطوانة بنجاح و عشت لحظات جميلة ممزوجة بمتعة الماضي الجميل من خلال أجهزة تحمل من الفرح و السرور والمحبة في القلب لنا ما لاتحمله كل الأجهزة المعاصرة مجتمعة رغم تطورها ،اشتقت فعلا لهذا الزمن الجميل ، فلولا الفوضى التي أحدثها في المنزل لما عشت هذا اليوم الجميل بكل ماتحمله الكلمة من معنى .
أسفي في 18 نونبر 2021 .
أحمد صحيف .
متابعة / روضة الأدباء العرب
Reactions

تعليقات