القائمة الرئيسية

الصفحات

 


الأغصان تخضرّ من جديد.
تنبع جذورنا من تربة مات لأجلها الأجداد وسقوا أديمها بدماء لازالت تنبض بالحياة حتّى بعد موتهم.
سرى الدّم في ثنايا حديقتنا وأصّل فيها لسان بني تربتنا فأحاطتهم بدروع تحصّنهم من نسيان جذورهم. ثمّ نطقت الأرض بحروف هم من صنعوها، وتبارزوا بأصواتها ومقاطعها، حتّى تينع وتسري في الآذان والقلوب ويستلّذها المستمع، وتتشبّع بها الآذان، وبذلك صارت لغتنا خيط وصل ربط بين عقول وقلوب أهل شعابنا فعرفنا بها. اشتدّ عود الأغصان في الأشجار وصار يصعب ليّها، وامتدّت الجذور معتزّة بتمازجها مع تربتها وعسر اجتثاثها، وصارت علامة فارقة إذ أنّها تشبّعت بما يجعلها مختلفة ومتميّزة . يمضي الزّمن وبستاننا مختلفا محصّنا ومنيعا حتّى ازدان أكثر فأكثر وسرّ به الأجداد وعاشوا في كنفه مجتمعين . تفتّحت الأعين علينا، وساءها أن نعيش كذلك. ساء أهل تلك العيون أن نجتمع وأن يكون لنا بستان لا يتقاسمه معنا أحد وأنّنا ذوي أملاك. زحفوا علينا ليزيّفوا فصيلة دمنا، ومزجه بما لا يدرّ على الجذور بريّ نافع. أرادوا تفريقنا ليسرقوا بستاننا ولينتزعوا غلالنا فيحرمونا منها وينتفعوا بها هم. عمدوا إلى وضع بصمات هجينة لا تمتّ إلينا بأيّ صلة، ولا تشبه مقاساتنا لا طولا ولا عرضا ليتقاسموا معنا الأرض ووجدوا ضالّتهم في هزلى من قومنا فأعانوهم على مكرهم وسوء نواياهم تجاهنا وتجاه ما يجمعنا. انطلت الحيلة على أولئك الضّعفاء ممّن عاشوا فينا ومعنا، فاستقووا بهم وقوّوهم ضدّنا. صارت الحديقة لقمة سائغة لكلّ من هبّ ودبّ وصرنا فيها غرباء. وبعد ما كنّا نحميها ونحتمي بها أصبحنا نتناخر داخلها، ونخاف من المقام داخلها ونختبئ وراء جدران صنعها أعداؤنا وصدّقنا نحن أنّها عوّضت ذلك الحصن الّذي كان يجمعنا كلّنا. صدّقنا أنّه أقوى، وأجدر بالثّقة فيه. بعد ذلك أصبحنا أشلاء متناثرة تعبث بها كلّ الرّياح، وتتقاذفنا كلّ الأرجل فقد استبحنا حتّى من أقرب النّاس لنا لأنّهم انطلت عليهم حيلة الزّاحفين على حديقنا، ودمهم امتزج بما عقروه مع الغرباء فتهيّأ لهم أنّنا الأعداء والآخرون هم الأقارب. لكنّ دم الأجداد مازال ينبض بالحياة داخلنا وفي كلّ شبر من أرضنا، وقريبا ستهتزّ الأرض ولن يبق عليها إلاّ من تشبّث بها. ستهتزّ الأرض وستسقط كلّ الجدران الّتي صدّقها الضّعفاء ونصّبوا أنفسهم أسيادا داخلها. ها هي الأغصان تينع من جديد وتتأصّل داخل تربتنا جذورنا الّتي كدنا نفقدها.
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس
Reactions

تعليقات