القائمة الرئيسية

الصفحات

 


حدّثت هادية آمنة فقالت نفر الشيوخ وأعيان مدينة قفصة والقُرى المجاورة لعمليّة جهر العيون فحُملت السناجق وتمايلت على وقع قرع الطبول وهزّات البندير و نفخ المزامير. دُفع ثور ليسيل دمه على ضفاف العين . غَضب العيون وارد ولعنتها أكيدة إذا ما عدمت صنوف العناية والحفاوة من مريدي ماءها. اشتدّ هتاف أولاد حومة الوادي مشاكسا في حدود اللّياقة التي يحرص عليها الجميع فلا سبيل إلى التجاوز فالهدف هو المنافسة للصالح العام. ينتصب عمّار فتوّة حومة باب الجبل عاري الصدر وقد شدّ سرواله المتآكل على حزامه بحبل من الّليف أداره بإحكام على جذعه الصلب . يغوص إلى الأعماق ... يكتم أنفاسه ... بأصابعه الطويلة النحيلة يجدّ في جمع الرمل والرواسب في فجوة الثوب المعلّق على رقبته.. يُرجرج الحبل بعد إحكام شدّه بيد تاركا للأخرى مهمّة إمساك ثقل الحمولة. تجذبه السواعد ليطفو على السطح ... يستنشق الهواء في شهقة يعقبها تحريك سريع للرأس .يهرول نحو الضفّة يُفرغ حمولته في زنبيل ثمّ يعاود النزول ثانية متحديّا منافسه الذي انسحب بعد ما مسّ يد ممتدّة نحوه . هرول صاحبها ساخطا من التعليقات الساخرة التي شُنت على فريقه . رفع يده وصوته صارخا ثمّ غاص في الماء..... تتواصل العمليّة بين الفريقين في نسق سريع و في تنافس محموم فتلعلع الزغاريد و تنسكب نظرات الإعجاب من الحسان جسورة مخترقة مجرى الدم في الشرايين الشابة فتلتهب الحماسة للغوص والجهر ولمّ أكبر كميّة ممكنة من الشوائب. ينجلي بؤبؤ العين عن ماء رقراق يتدافع منسوبه فينصرف الشيوخ من الربطين لتقييم كميّة الرواسب لكلّ من الفريقين فيُعلن عن الفائز حينها تدقّ الأرجل الحافية الأرض رقصا ساخرا من احتجاجات المُنهزم . تخترق قصاع الكسكسي المحمولة على الرؤوس الجموع لتستقر في الردهات الباردة المسقوفة على جوانب الأحواض فيحلقون حولها في تدافع ضاحك .... حينها تتقدم الإناث في خفر لتتريع الأجساد وجدائل الشعر بالماء المبارك فتُسكب الأماني الناشدة إلى نبض الحياة الخصبة . على غرار احتفالات جهر العيون بقفصة تنعم عين الفوّارة بالقصر وعين السلطان بلالة بطقوس عقائديّة وفرائحيّة ينساب بعدها الماء رقراقا إلى أجنّة الواحات عبر القنوات والسواقي فتبتلّ الحواجز الطينيّة المسنودة بجذوع النخيل. تغوص شمس الأصيل غامزة بين فلول رؤوس النخيل متضاحكة من غزوة أولاد حومة باب الجبل لحومة الوادي يقرع صبيتهم الأبواب منشدين طالبين غنيمتهم قطع من الحلوى أو حفنات من التمر, من خلف الأبواب المواربة تُلقي الأيادي البضّة الماء على الجموع كعربون سلام ومودّة بين الحومتين. خرجت من طلقة يدها قطرات من الماء لامست وجهه فارتجفت أوصاله . كلّ الحواس تذعن تخفر تذلّ أمام جبروت جمالها الذي لمحه اليوم في مناسبتين إنّها بركة العيون .. أحنى عمّار رأسه وقد ذبلت عيونه الواسعة . ابتسم في تودّد للشباب الغاضب آمرا جموع حومته بالانسحاب.

هادية آمنة / تونس

Reactions

تعليقات