القائمة الرئيسية

الصفحات

 



تُهمة الحياة

أريد من ذاك الزمن أن يكفّ عن الحضور في زمني ذا . أريد من ذهني أن يكون صافيّا و أريد أن أكف عن مخاطبة نفسي حين اسير بين الأزقة . أريد ان اكفّ عن الشعور بالخزي و العار حين أتعثر على الطرقات . إني تعبت! تعبت من المشي و من ذاكرتي التي لا تتوقف عن الإستحضار و تعبتُ من أشياء كثيرة أخرى تعجز المعاني عن القبض عليها .

حذائي لازال ثقيلا ً ولازلت أتفحّص لوحات فان-جوخ .و في كلّ يومٍ أربط قاربي إلى أحد تلك الأعمدة الواقعة على طرف الميناء . أجمع الحبال وأحمل صناديق السلمون و السردين. أسير و أصيح للناس و أبيعهم أسماكي التي أنقذتها توّا من الغرق، و خلّصتها من تهمة الحياة . أجرّ أطراف معطفي البنّي الداكن المبلل بمياه البحر ككل يومٍ من قوس الميناء إلى المحطّة مروراً بشارع المكَْانة . أصيح و أصدح للناس في آذانهم لأبيعهم صيدي . حين أنتهي أشتري رغيفاً محمّصاً و بعض المربّى. و أسير رأساً إلى حيث أستطيع أن أغمس و اتلذذ دون الشعور بحدود الحياة . أتخيّل سيزيف سعيداً و هو يدفع صخرته و أُلوِّح بيدي للهامستر الصغير في قفصه الدائري .

أكتري غرفةً صغيرة في الحيّ الصناعي أسفل المدينة القديمة على الضفة الغربية قبالة الجزيرة. أنفق مقابلها مئة و خمسون درهماً شهريّا . تقع أعلى مستودع مغلق و مهجور حتى أننبي لا عرف صاحبه، إنما أسلّم المبلغ إلى حارس ساحة الخردة الواقع على بعد بِنايتين . غرفتي تناسب دخلي إلى حدّ بعيد . أمّا الحمّام فإني أستعمل ذلك الخاص بالمسجد العتيق . لا اهتم بالطقوس و المُثل كثيرا، لكنّي أصلّي أحيانا مقابل إستعمالي الحمام . أمرٌ أعتبره أخلاقيّاً على كل حال . فأنا لا أكسب ما يجعلني أفكر في تغير الغرفة و البحث عن اخرى، فقد قضيتُ فيها سنوات أجهل على وجه التحديد عددها . ما أتذكره أني عقلتُ نفسي و كبرتُ في ميتمٍ و تركته أيام حرب الرمال و عمري لم يتجاوز الأربع عشر . و قدمتُ من اقاصي الجنوب حتى بلغتني رياح هذه المدينة المنكوبة . فأتخذتها مستقرّا قبل ان أفهم كثيرا أن لا احد افضل من أحدٍ في هذا الوطن، مادام لا أحد يُساند الآخر . فقط يضربُ الخيّرون بالخيّرين بينما يمشي الظالم متبختراً .و من خالفته هنا أو إختلفت عنه أفسد ودّ القضايا و فضّ الوعد و انتكس . و لأكون صادقاً يا ابن وطني، فالمال وحده إله هذا الزمن . أدركتُ إلم أكن اهذي فضاعة هذه الجموع . قدمتُ صغير السن و إنغمستُ هنا حتى فقدتُ معنى الزمن و ذابت الأيام و الأسماء و الاعلام، حتى الألوان أصبحتُ لا أعيرها إهتمام . قضيتُ معظم أمري بين القوارب و السفن في الميناء . كنتُ أُسجن في بداياتي لأيام، و حدث ذلك مرات كثيرة نظرا لِوضعيتي القانونية، بحيث لا أمتلك أي وثيقة تثبت هوِّيتِي . أنا لا أحد، و بقيت كذلك حتى أصبح هذا اللأحد هوّيتي .   لم ادري كيف حصلتُ على قارب خشبي صغير . لكنه عزائي الوحيد الذي إنشلني و خلّصني نسبيّا من البشر . قاربي مصدر قوتي و به أبعد عن تلك الفزّاعات المثيرة للشفقة . ما أكسبه من السردين و السلمون لا يكفي سوى لدفع أجرة الغرفة و اجرة العمود الذي أربط به قاربي كي لا تجرفه الامواج ليلاً . و ما يتبقى لي، نصفه للرغيف و المربى، و النصف الثاني أدخره تحسّباً لأي طارئ . و هذا -الطارئ- لا أفهم ما خطبه! إنه يكاد يزورني يوميّا . و تجدني إما أصلح ثقوباً حدثت فجأة في القارب، او أخيط معطفي أو حذائي الثقيل، أو تجدني أبحث عن حبلٍ جديد لشباكي .
ففي مكانٍ كهذا، يصبح الهدف مجرّد نكتة تضحك لها الثكلى، و يصبح المرء الطّموح نادراً و كائناً طفولياً أو أسير الخيال . فأنا كما هم أغلب هؤلاء الذين تتصادم أكتافنا في التقاطعات و الأزقة، لم نحقق شيئاً ذا معنى على اليابسة و لا نحن شيّدنا في البحر أسطولاً . بل بقينا بين هذا و ذاك، مقبلين مُدبرين نتوهّم اننا نحقق تقدما .

حين أُبحر، أَحرص على ان أبتعد عن الشاطئ حتى يبتلعني الأفق . هناك فقط أستلّ شباكي و أحررها من بعضها البعض لتصبح قادرة على معانقة الاسماك . هناك فقط أستطيع أن اكون وحيداً فقط ، لا وحيداً على الأطلاق . الصيد حرفتي منذ زمنٍ طويل، و به أبقيت على نفسي في مواجهة تهمة الحياة . فأنا لم أدخل البحر إلا هارباً. جُرذٌ حقير فرّ قُبيل تلك اللحظة التي هوت المطرقة على السندان . أردت ذات يومٍ ان أكون وحيدا و منعزلاً . فلمّا أبحرت وجدت هذا الفضاء الرحب . وجدتُني وحيد فوق قاربي على راحة يد البحر . وهنا أدركتُ أن للوحدة قدرةٌ عجيبة على منح البهجة و الإمتنان، على الرغم من انني لم أحض بالإنعزال . و هو ذا ما دفعني إلى القول بأني إستطعتُ أن أكون وحيداً فقط، لا وحيداً على الإطلاق .

لقد لازمني الناس حتى و أنا أنأى بجسدي عنهم أميال . إنهم يسكنونني، يناقشون و يتحدثون و يتحاربون داخل رأسي . إنهم لا يتوقفون عن إفساد عزلتي و عن المناداة و عن تحديد طريقة تفكيري و ماذا ينبغي أن أؤمن به و ان أعمل به . لقد إستعمروا ذاكرتي بشكلٍ قبيح . أتخيّلهم طفيليات و خلايا سرطانية تسبح و تنخر دماغي . أولئك الدجاج يحشرون أنفهم في قمحي و يدفعونني نحو الكآبة و الجنون . أنا مريض بالناس، و تمنّيت كثيرا أن أفصلني عنهم . مرضٌ أصله من حيث لا أدري . فلطالما ناقشت الغير على أنه تهديد و شرّ محض . أنا لم أفضل البحر على اليابسة إلا لوجود تلك الكائنات المتحذلقة الغبية التي أفسدت طبيعتي، و رغبةً في خلاص مؤقت أعود للبحر علّني أرجع بذاتي إلى ذلك الكائن الدارويني، الشبيه بالطحلب الذي سلّمتُ جدلاً أني كنتُ عليه قبل ملايين السنين .

أقضي يومي بين تأمل طيور النورس المحلّقة فوقي من حين لآخر، ثم  أقضم الرغيف المحشو بالمربّى، و أراقب الحبال و أحافظ على مسافتي مع الشاطئ . الى أن أرفع رأسي إلى قرص الشمس حين يميل نحو الغروب . عندها أعيد جمع الشباك و أفرز السردين من السلمون و أضع كلٌّ في صندوق . أجدّف مرّة أخرى في إتجاه الشاطئ . أستغرق قرابة الساعتين في الإياب . أربط القارب بالعمود مرة أخرى . و أكرر قطع شارع المكَْانة و أنا أصيح . أتوسّل للناس أن يشتروا كائناتي التي أنقذتها توّا من الغرق . أنظر للدين يتجاهلونني و أضمر لهؤلاء الطُّفيليات الكثير من الشتائم ، في حين أبتسم للذين تفّحصوا صيدي و سال لعابهم و أبدوا رغبة فيه . 
من أخذ منّي قدراً قدّمت له سمكتين و أثلاث زيادة؛ اعبّر بها عن كرمي وصدق محبّتي لأهل مدينتي الأعزاء . إليكم أسماكي أيها التافهون و اللعنة على الأيام التي حشرتني بينكم . ها انا ذا أهبكم! فاشتروا منّي يا سادة أطيب الأسماك . سلمونٌ طازج و سردين من تحت خياشينه دماء وهّاجة . إشتروا من عندي أيها العبيد يا قبيحي الذوق .

عادةً ما استغرق ساعات لأبيع . حين أكون منهكاً بالتجديف أضطر إلى خفض السعر لأبيع سريعاً و أرتاح . أعود إلى غرفتي الصغيرة، و أستلقي و أبدأ في عدّ تلك الأعمدة التي تشكل السقف، انتظر الناس ان يتوقفوا عن الهمس في أذني مرّة اخرى.
تلك الأعمدة في السقف ترسم لوحات سريالية حزينة أتابعها بإهتمام شديد . إنها فعلا حزينة . أو أنّ عيني هي الحزينة جدّا. أراقب العنكبوت الصغير يبني بخيوطه شكلاً على إحدى زوايا غرفتي، ألقي عليه التحية أحاياناً و أطالبه بأن يمدّني بنصيبه من ثمن الكراء و إلا قتلته و إن كان يعتبرني صديقاً . يتوقّف قليلاً، يتحسس صوتي و ينظر إليّ بشكلٍ مقلوب ثم يعود إلى شباكه، إنه يسخر مني أيضاً . يعلم بلا شك أني صيّاد ... صياد بائس يطارد السّلمون و تطارده الذكريات، و ربّما تركته حيّا هناك لأنه الوحيد الذي يعلم عنّي هذا القُبح  ...


- تهمة الحياة / سمير العوادي / المغرب . 
Reactions

تعليقات