القائمة الرئيسية

الصفحات


 شهادة ذئب---

افترس الذئب حملا على ملك الرّاعي عسبورة . فحضر الموظف الحكومي سي جاروشه . عاين ما تبقّى من الجثة ثمّ أمضى على تعويض للراعي قدره ثمن كبش أقرن من صندوق حماية الحياة البرّيّة و المحافظة على التنوّع البيئي الذي ترعاه الدولة بمساهمة من بعض المنظمات و الجمعيات الدولية ، ثم أخذ معه خروفا كتّفه في صندوق السيارة.
- يا سي جاروشة! البركوس هذا ، وأشار إلى الخروف بأصبعه، هو بخمس مائة دينار في السوق و زده حملا بثلاثمئة أكله الذيب. فماذا يكون ربحي، أنا؟ إذا كنتم سوف تعطونني ثمان مائة على الكبش.
- يا سي عسبورة! هذا مازال علّوشا و لم يصبح بركوسا بعد. هذا تكلّف عليك بمائتين و خمسين و الحمل بمائة و خمسين . إذا أنت تضرب أربع مائة دينار هبرة بلا عظم من شطارتي. احمد ربّك!
- و للّه الحمد! حتى البعرة حسبتم ثمنها فقطعتم البركة؛ لا بارك لكم ! لم نستطع الأكل معكم. أنت نصيبك خمسة و أنا مولى القطيع أربعة. إنّها لقسمة ضيزى كما قال الله تعالى في سورة النّجم.
- انظر سي عسبورة، من الاول تفاهمنا على ما هو لك و ما هو لنا. انظر جيّدا، لو أنّك بعت هذا العلوش و الحمل الذي افترسه الذئب في السوق لن تتحصّل على أكثر من سبع مائة . أنت رابح مائة عن السوق! و نحن لم نربح سوى لحيْمة سوف تتقاسمها أفواه عديدة. لنترحّمْ على أبي ثمامة هو يقتل حملا فأحييه لك كبشا ، ها ها ها.
- حسنا، حسنا، خذ هذا الكأس من الشاي.
شربا الشاي و اتفقا على خطّة العملية الموالية.
عاد الذّئب ،بعد ليال، و دار حول المكان فلاحظ وضعا غريبا . الكلب مربوط و باب الزريبة مفتوح! توجّس خيفة و لم يتقدّم لكن الجوع ينهش بطنه و صورة خروف سمين ينتظره في الزّريبة تراوده. فلم يستطع المقاومة . هجم تحت دموع الكلب و زقف خروفا و فرّ.
تفاجأ الذئب بصورته في نشرة الأخبار الصباحية التي تعرض شريط فيديو يصوّر مشهدا له و هو يدخل الزريبة، و المذيعة الجميلة، بكلّ أسى و حزن ، تتحدّث و الدّمع في عينيها عن مأساة عائلة ريفيّة. وحش هاجم زريبة راع طيّب. قتل كلبه و بطش بخرافه . مشهد مقزّز ، جثث متناثرة تعوم في برك من الدّماء و رجل يبكي أمام العدسات، يمسك كلبا بين ذراعيه، قد تدلّى لسانه و ذيله، مضرّجا بالدّماء يوحي بأنّه قد خاض قتالا عنيفا حتى الموت. خلفه رهط يصيحون:" الموت للوحش! حرّروا مراعينا من الذئاب! "
عرف الذئب الكلب. لقد جرت بينهما مطاردات عنيفة كاد يلاقي فيها حتفه لولا سرعته و مكره، و أيضا، لولا ضخامة الكلب ممّا أثقل حركته . ما عدا ذئب أرعن يخوض قتالا مع مثل هذا الكلب و هو لازال بعقله .
أقسم الذئب أمام التلفاز أنّه بريء من هذه الجريمة و هذا فخذ خروف و مسلانه يشهدان عن صدقه في الثلاجة. و أيقن إن كان هو الذئب فإنّ هناك من بني آدم من هم أكثر وحشيّة منه.
تعجّب من صنيع البشر. كيف يبيدون قطيعا لأجل حفنة من الأوراق؟ بل قد يدفنون قرية بأهاليها و مبانيها تحت أنبوب نفط في الغابة! لقد شاهدهم و هم يفعلون ذلك لكنّه يعرف أنّه لن يصدّق أحد شهادة ذئب . و أنّه لا يوجد قاض يستطيع الإذن بنبش أنبوب نفط تتدفّق فيه ملايين الدولارات يوميّا لأجل دليل على جريمة وقعت على نكرة فقراء، شاهِدها الوحيد ذئب.
لقد أفسدوا مزاجه هذا الصباح و عكّروا عنه قهوته حتى سيجارته أشعلها بالمقلوب لمّا حلّ ركب الحكومة بالمكان. و تكلّم المسؤول الكبير أمام العدسات عن خطّة الحكومة في التصدّي للذّئاب و القضاء عليهم. و ذلك، باجتثاث الغابة التي يحتمون بها، و بعث مشروع نفطيّ عملاق في مكانها، و التي سوف تحلّ مشكلة التشغيل بالمنطقة و تساهم في ازدهارها، ثمّ مسح على الكلب و صافح الراعي واعدا إيّاه بحلّ لمشكلته . بعد ذلك، توجّه إلى الرّهط و تعهّد بتبنّي مطلبهم و ذلك بالدفع الى إصدار قانون من مجلس النوّاب يبيح استغلال المناطق الطبيعية المحميّة في التنقيب عن البترول الذي سوف يريحهم من خطر الذئاب .
و هو يغادر سأله أحد الصحافيين عن مشروع المحافظة على الحياة البرية فأجاب بأنّه سوف يتمّ نقل الحيوانات إلى مكان آخر. و أضاف بخبث "و إذا تعارضت مصلحة الرّاعي مع مصلحة الذئب مع من تكون؟"
عند مغادرة الجمع الزريبة في إثر المسؤول، أمسك عسبورة بذراع سي جاروشة و تأخّرا حتى خلا المكان و طلب منه الإسراع بالموافقة على التعويضات فحتى السيد المسؤول الكبير عاين الأضرار. فاجأه سي جاروشه بأنّ الأمر يتجاوزه، هو يتحكّم في خروف أو اثنين كما كان الاتفاق بينهما. أمّا هذا فهو قطيع وقد صار ملفّه على طاولة السيّد الوزير. و قد كان من الأجدى به استشارته قبل الإقدام على تغيير الخطّة المتّفق عليها بينهما و تنفيذ هذه المسرحية. ثمّ طمأنه أنّه سوف يسعى في حلّ مشكلته، و طلب مقدّما على أتعابه.
تعلّل عسبورة بخلوّه من النّقد . لقد فقد جميع ما يملك، لكنّ سي جاروشه ضغط عليه و هدّده بفتح تحقيق معمّق في الحدث و عليه تحمّل ما سيكشف عنه البحث. ثمّ لطّف معه الحديث و أعلمه أنّ ما سوف يأخذه ليس له بل هو لمن سوف يحرّكون الملفّ على طاولة الوزير و هؤلاء لا يعملون بلا تشحيم .
أحسّ عسبورة بفداحة الورطة التي أوقع نفسه فيها لمّا وضع نفسه بين فكّي السيستام. أنياب الذئب أرحم ! لكن ما العمل فلم يعد بإمكانه التّقهقر و إلّا خسر كل شيء . رهن حليّ زوجته و أعطى عوضه لخانقه. كان سي جاروشه يضحك في داخله:" المغفّل لو أنّه باع الذّهب و اشترى بثمنه قطيعا كانت تُحَلّ جميع مشاكله . سوف يستردّ بعمله حليّا من الألماس، لكن من أين يتمعّش الشّطّار مثلي إن لم يكن حولنا حمقى طمّاعون.".
بعد مدّة حضرت جماعة من الصيادين المأجورين ، انتدبتهم الحكومة للقضاء على الوحش . قاموا بمحاصرة الغابة و تمشيطها و لم يتركوا كائنا حيّا إلّا و سجنوه في قفص أو قتلوه إلّا الذئب فلم يتمكّنوا منه.
وصلهم توبيخ من السّلط يهدّدهم بعدم الخلاص إن لم يحضروا الوحش الجاني، فصورة الحكومة معلّقة مع صورته عند العامّة . و النجاح في الانتخابات القادمة رهين بالقصاص منه و إنقاذ هيبة الدولة من بين فكّيه.
هو ذئب ماكر يتحرك في شبكة من الأنفاق بين أحراش الغابة. يتسلّل عندما يكونون في غفلة فيسرق الطعام يزقف ديكا من المزارع القريبة و يهرب. جرّبوا معه أصنافا عديدة من الفخاخ ولم يسقط. كان يطلق الفخّ ثم ّيسرق الطّعم و لا يأكله، يلقيه قرب مخيّمهم حتى تأكله كلابهم و تهلك اذا كان مسموما . لقد جعل منهم أضحوكة بين أهالي المنطقة حتى وصل أمرهم إلى الصّحافة فجعلت تنقل يوميّا أخبار فشلهم في أداء المهمّة و تتندّر على خيارات الحكومة، الرّجل المناسب في المكان المناسب و تعرض صورة ذئب.
وصل بعد العصر إلى الموقع صيّاد عجوز استهزأ من مظهره الفريق. قدّم أوراق الإذن بالمأمورية إلى قائد المجموعة و شرع في العمل.
أنزل من مقطورة كميونته صندوقا ذا عجلات جرّه إلى الغابة دون أن يحمل معه بندقية أو سلاح . و طلب من القائد أن يؤجل مهمّات اليوم إلى الغد. سأله القائد إن كان يريد خريطة لتنقّلات الذئب ليسهّل عليه البحث. أجابه أنّه سوف يجعل الذئب من يبحث عنه و ليس هو . سأله بعض أعضاء الفريق عن محتوى الصندوق فلم يردّ عليهم.
ابتلعه ظلام الغابة ليلته و لفظه عند الفجر لاح الشيخ يجرّ صندوقين في مشيته علامات النصر و خيلاء.
نهض الجميع و خرجوا إلى الساحة و تحلّقوا حول موقف الصياد العجوز فتشامخ عليهم. رأوا قفصين في كل واحد منهما ذئب. لم يمهلهم الشيخ حتى السؤال :"هذا ذئبكم الذي تبحثون عنه... و هذه ذئبة أحضرتها معي...مهما كان الذّكر حريصا فإنّه يفقد حذره أمام الأنثى. "
تسلّمت السّلط الذئب و حكمت عليه بالإعدام. بتهمة حمله لفيروس الكلب حتى لا تتعرّض إلى احتجاجات جمعيات الرّفق بالحيوان.
هجمت شركات النّفط على الغابة و مسحتها ثمّ نصبت منصّات الشّفط و ماكينات الضّخّ. انتدبت الرّاعي عسبورة بتوصية من المسؤول الكبير شخصيّا و جعلته رئيسا على بقيّة الرّعاة الذين جعلت منهم حرّاسا على أنبوب النفط المارّ عبر أراضيهم .
يوم افتتاح المشروع سيق الذئب إلى ساحة أمام مبنى الإدارة لتنفيذ الحكم .
و في طريقه إلى المقصلة استعرض شريط أحداث البارحة. من قفصه رأى سيارة . نزل منها سي جاروشة . دخل إلى مبنى الادارة . بعد برهة، خرج منه وهو يحمل حقيبتين خلفه شخص يحمل حقيبتين أيضا، يخفرهما ثلاثة نفر. أخفى الحقائب تحت الكراسي ثمّ اختفى في جنح الظلام. و هي نفس السيارة التي نزل منها سيادة المسؤول الكبير ليشهد مصرعه.
خطب المسؤول و تحدّث عن العدل و كيف أنّ الجاني اليوم يأخذ جزاءه. كما تحدّث عن التّنمية و كيف ستتدفّق العملة الصعبة إلى خزينة الدولة ، جرّاها سيعمّ الرّخاء المنطقة و يتمّ القضاء على البطالة . و الرّاعي عسبورة يصفّق و هو يلبس بدلة زرقاء عليها كتفيّتان من النّجوم النّحاسية البرّاقة تلمع تحت أشعّة الشمس و على صدره نياشين تتدلّى تكريما له على التّنازل عن مراعيه لإقامة المشروع.
كتّفوا الوحش و وضعوا رأسه على الوضم . اغرورقت عيناه: " إذا كان عقاب المذنب عدلا، فهل من الإنصاف قطع رأس سارق خروف جائع و رفع رأس مفسد في الأرض جشع "
و قبل أن تنزل المقصلة على رقبته التقت عيناه بعيني عسبورة فارتعب الأخير و سمع صوتا مع فحيح النّصل فهتف:
"العدل أساس العمران قال ابن خلدون و الإنصاف عماده قال تشرشل"
و مدّ يده فقطعت المقصلة الهراوة الحكوميّة التي تسلّمها مع البدلة و أوقف بكلّ قوّته حركة النّصل مباشرة عند رقبة الذئب التي جُرحت جرحا طفيفا.
" حتى الرّاعي البسيط أصبح يتحدّث عن العدل و الإنصاف! هيّا أيّها السكرتير الخاص. هذا آخر تكليف لك، احملني إلى السيارة زقفونة، قبل أن تتوقّف هذه الجماهير عن التصفيق و تطالب باسترداد الأراضين التي بعناها للشركات"
--- جمال الطرودي / تونس---"
7/2/2021

Reactions

تعليقات