القائمة الرئيسية

الصفحات

تأملات في " المجموعة الشعرية " العنقود " للشاعر الناصر العماري

 



• تأملات في " المجموعة الشعرية " العنقود " للشاعر الناصر العماري
هي مجموعة احتوت على احدى وخمسين نص أو قصيد نثري ...في 91 صفحة ..صادرة عن دار سنابل للنشر والتوزيع بسليانة لسنة 2019
• إن القصيدة القوية هي إنجاز القلق – مراد ساسي
• الكتابة في طقوسه( الناصر العماري) طورا أياد حريرية الملامس كفرح قصي يأتيك من الغيب وطورا عوسج يقبض على القلوب يعض الجرح وَ يؤلمك بألمك ....
نص الشاعر الناصر العماري في محموعته الشعرية «العنقود » ، ينطلق من معانٍ موضوعية وإنسانية رفيعة القيمة،من حب وحنين ..وعشق وفقد وخيبات ..وذكريات .. ويتداخل فيها الموقف السياسي النقدي والجريء والرؤيا الذاتية ..لما يدور حوله – خاصة وانه رجل شغوف بالمسرح، بالصورة بالمشهدية بالاقتناص والحضور الركحي .... وهو في هذه الأجواء المدهشة والحميمة يعّبرعن ذاكرة تستعيد التفاصيل الصغيرة المنسية والعادية والعابرة والمهملة، بمقدرة شعرية ماتعة في حرارتها دفئها هدوئها وبساطتها وعمقها...
قصائد المجموعة تكشف عن محاولات مبدعة وخلاقة لاستعادة لحظات الهرب من قلق جاثم على صدره وحيرة تقبع في رأسه تقض مضجعه ، وذلك عن طريق ذاكرة شعرية جوهرها لغة رشيقة وسلسة وقيمة إنسانية عالية وروح تائقة للهدوء والسكينة والجمال، ولكنها في الأصل متحدية ..حارقة ..كنار تعتمل في كيانه
فحين نلج هذه القصائد، نلاحظ أن سمات العمق..في الصورة والمعنى رغم قلتها والإبداع والإيجاز تبدأ في الارتفاع شيئاً فشيئاً، لتملأ وقتنا بصور ومشاهد...لتستفيق الذاكرة وتبوح بتفاصيل الحياة اليومية المؤلمة والمتشظية كقصيد "احلام في مهب الريح "ص ( 21) ليمتزج الحلم بالجنون ويمتقع القلب بالاسى والروح بحرائق الشجن .
وهو ما يترجمه قصيد " جنون" ص (19)،و كأننا به يؤمن بما صدح به البار كامو " ان الصدمة هي بداية الوعي " ...
والمعنى هنا واضحا مباشرا حتى أن ذات الـمعنى، يتجدد في قصيدة يظنُّ قارئها، من فرط ما هي معلنة ..يحسبها سريَّة،تعتمل في ذاته فيعتقد أنه كاتبها! وتلك هي سمة التشاركية في منحى الشعر الحديث بين صاحب النص الشاعر والمتلقي القارئ ..

"الشرفاء" ص(25) :
شرفاء هذا الزمن
ليسوا مثلنا
وفي لحظة بوح مرة " كفكاوية " ان صح التعبير "( فرانز كافكا) تماما كرسائل كافكا إلى حبيبته ملينا .و.كذبحة حنين ..رف من شقوق الذاكرة ..يهطل "انتظار " ص (24)
انتظرتك .. وحدي
مع الطريق...وقلبي الغريق
يا ويح قلبي
انها الحيرة الحامضة باكثر من سؤال وسطوة القلق الذي ينهش قلبه "يا ويح قلبي"،وهنا نستشف ان قدر الشاعر فردي بامتياز فهو الذي سيترك للمجهول يقاتله وان هذا المجهول هو الحياة وا يخفر فيها لذلك اقول دوما ان تكون شاعرا يالها من مشقة، فالشاعر هو المزارع والفنان والمصارع ، هو مصارع في حلبة ضد مجهول .
ويتعمق هذا الاحساس في قصيدة " عصفورة من شمال افريقيا " ص (54)
هذا الوقع ..." الرتم " الإيقاع.. كصرير بوابة أو أقدام في قاع سحيق وهنا تكمن المفارقة ...بين الحنين والحريق
ويتجلى بأكثر عمق ونكاية بالذات المنكسرة المتألمة في قصيده "فلسطين ص (59) او" الرئيس" ص(63)
ويواصل ترنيمته الحزينة ..طلل على عتبات شجن يعزفه بكمان الخيبة والوجيعة المترامية في روحه ..ويستبد به سؤال الحيرة القاتلة ..كمقصلة لا ترحم إذ يقول في قصيده " الحديث المسند " ص (67):
قطعوا الماء عنا ...
قطعوا عنا الحليب
ونفخوا في لهيب قد خمد
اوهمونا ان الله غاضب منا
هو القلق..والصورة تشي بكل هذا العمق ..ومع القلق كمن يجرفه التيار يسلم .للفجيعة أمره ..
ولكن سمة . الهدوء ...البساطة والعمق في لغة الشاعر تكشف وعياً بتقنيات الكتابة الحديثة، لغة تعتمد الإيجاز والتكثيف، إضافة إلى المعنى العميق لحالات إنسانية في واقع شديد يرتد فيه كل شيء من الوطن إلى العاطفة إلى الحياة اليومية بكل قسوة، وانظر إلى تنبيهه على رعب الآتي وضنك المصير من خلال استشراف القادم ...والسطو على الثورة ...وبؤس المشهد الراهن ..
" عصابة " ص (10)- حكمة سياسي ص (11)( استفحال الباروديا وسمة التهكم والسخرية)--مواطن ص (80)--"كادوو" ص(84)
ويتماهى في تهويمة الهزيمة وتشظي الراهن الوطني والعربي ..وبكاء الواقع المتيبس البائس المرير في قصيدة "انا وطنك " ص (81)
وهنا نلمح نقدا لاذعا واخزا ..لمن اعتلوا الثورة وخربوها ..وهو بذلك يشير إلى الساسة الفاسدين ورجالا يتاجرون بالدين ومن يملكون صولجان الحكم أنهم شرك وخدعة ووهم ومنجمون يبيعون الوهم للناس فخاب أمله فيهم ..وأصبح منبها وجرسا يوقظ العيون على رعب المنتظر ...المصير المجهول ....وتلك لعمري مهمة الشاعر ..إحداث الصدمة والتنبيه على الآتي بوعي ..حاد ومنافحة عن الإنسانية ..لتستعيد بشريتها ..ولا تسلم أمرها آمالها ومصيرها إلى المهرولون بهم إلى الهاوية ..إلى مناخات الخطر ..سباخ الصديد وومتاهات الأفول ..
ويمكن الإشارة إلى أن الشاعر في قصائده نلمس روحاً جديدة في التعامل مع حالات الراهن وتداخلها العميق مع حالات الحب، القصائد فيها هموم الناس وقضاياهم، من خلال أسئلة مؤلمة وأحياناً ساخرة، لهذا يمكن القول أنه ليس كل أدب مهموم بقضايا الناس وأسئلة الواقع هو بالضرورة أدب تقريري ومباشر ومؤدلج كما يذهب بعض النقد والنقاد ، فهذه القصائد فيها فنٌّ عالٍ ولغة مبدعة وهموم إنسانية رفيعة.يقتنصها الشاعر بسرعة الودق ويمنحها وميض البرق فيتمازج فيها النثر والسرد ...فتشكل حدثا شعريا باذخ المعنى والصورة مما يعبر عنه ب " ’l'enchâssement" ..وها هو يترجم عن ذلك في مقتطف شعري :"وصية "ص (91)
اياك والنوم
في حضن القطيع
ولا تامني وجع المفاصل
غدا تشرق شمس الربيع
قرأت قصائد المجموعة بمتعة، واستوقفتني قصائد تسيل من روحه حكايات شجن وحنين لأشياء أليفة هجرته، حنين للمكان ولماضٍ مضى وانقضى، وكل هذا يتم بلغة عذبة تطرح أسئلة صعبة عن حالها وحال الوطن، لغة فيها سحر بسبب من بساطتها وقوتها في وقت واحد، الشاعر يصف لحظة الحنين بهدوء وواقعية من دون تكلف أو ما يبدو أنه صنعة، روح شاعرية فيها براءة وعفوية ترشح من لغة في داخلها غضب على ما يجرى من حوله .
هذه الروح الشاعرية القلقة مليئة بأسئلة قد تبدو بسيطة، لكنها كبيرة تتجلى في قلب خالي الوفاض .قليل الحيلة ..ينوء بخشخشة الخيانة والوجع لا يزال عالقا على جرس..الروح :نزيف الذاكرة
ومما اشير اليه في المعمار والبناء للقصيد عند الشاعر انه يراوح بين الافقي والعمودي واحيانا طوليا كحكاية او خبر،وتتحول القصيدة إلى ما يشبه القصة، أو هي القصيدة على وشك القصة بضمير المخاطب قصيد ، " شهريار"ص(77) و"صدام الفداء" ص(75)
مقطع آخر يتجلى فيه السرد تأتأة ...وفواصل متأنية ..تنحدر متخثرة من عاطفة جياشة مثخنة بموقف سياسي وقراءة توصيفية دقيقة ولكنها موجعة .."ديكان" ص(61):
في قريتنا
ديكان طاعنان في السنّ
يتنافسان على امرة الدجاج
والدمع يهطل مدرارا...
يقول امبرتو ايكو " وظيفة الفن تجميل القبح" وهو ما يجرني الى القول ،فمن خلال ذلك الخطو الجمالي رغم قبحه،يرتفع مستوى النص إلى آفاق أدب رفيع فعلاً، وينزل هذا الشعر إلى الأرض مقترباً من السرد قليلاً ومن أسئلة وهواجس الناس، ويتحول إلى ما يشبه الكلام الموحي الذي مازج بين المرارة وحموضة الواقع والأحلام اللذيذة التي تذهب إلى المعنى بطريقة إيحائية فيها ترميزات إنسانية وحس مأسوي بلغة سهلة فيها موسيقى تعزفها روح عذبة تائقة إلى الحب و الهدوء والاستقرار والسلام والجمال والحب.
ويمضي في نسق السؤال والحكي ..حد الاستغراب عن الحب المفقود وهو عمود الخيمة في قصائد المجموعة وكأنه يبكي الفقد يظهر ذلك جليا في قصيده الوجعي لقلبه المحطم " سفر" ص(50)
سابحث عن مكان بي لا يضيق
يكون طيفك فيه الرفيق
يثير فيك القصيد وجع الذكريات و ندبة في الروح ...ولذعة الكبريت وطعم الملح ...وكأنك تشاركه كل وجدانه حد الإدمان اللاسع بنار بارود يتناثر من قلبه وتلك هي سمة للشعراء الذين يتبنون أوجاعك ويحفرون في ذاكرتك ..يوقدون فيك وهج الروح وتكتكت القلب ...؟!
مقتطف من قصيد " براءة" ص(56)
علمني سيدي
معنى الحياة
فانا لا اعرف معنى الحياة
الى آخر القصيد
وفي وقع الفاجعة وهول ووحشية الجريمة تتصاغر الأشياء والمفاهيم والتعريفات والمسلمات حين تـُنتهك الإنسانية بفجاجة وفجور وتسقط كل التوقعات في فخ الرعب والرعب الأكبر لتجد الحياة نفسها بين فكي التلاشي ...
هكذا تتصاغر الذات وتَحول ردود أفعالها مجرد دبيب صوت لا غير يبحث عن جحر تلتقط فيه أول أنفاس الأمنيات .. شهادة على المكان والزمان في عصر رديء هناك حيث يصبح الوصف أكثر صعوبة والتعبير أشد قسوة من الموت تتصاعد المآسي وتتجاوز حدود معادلة الحياة والموت حين تكون كل المبادئ الإنسانية والأخلاقية قد انتهكت .. ويحجم الوعي عن متابعة تسجيل الوقائع ويتصاغر .. ويتصاغر ليتلبس بزمن الموت والخوف ..والخيانة وليمة يومية تقترف في واضحة النهار ويختنق الهواء بأنفاس الموتى ...
قد يسمح له هذا الوضع باحتمال الوقوف مرة أخرى على قدمين من نقاء وعلى أقصى حدود التواضع والعفوية في مواجهة الشر المتعاظم .. يبدأ التراب بالرقص ..ليمحو كلس التتار والمغول عنجهيتهم المقيتة ليظفر بجرعة حرية له للناس و للوطن .. كما قالها شاعرنا .."يا ديوك القذارة " ص (62) او " ادركنا ان الله رحيم / وانهم شياطين منذ الأبد ص(68)
ويواصل في وصف الراهن المتفتت والمخزي ..وكانه يكتب في حشاه بخناجر الشجن والكلمات الرصاصة القاتكة به" عقيدة" ص(71): " الا واحدة ضاع حقها / انها تونس الشهيدة...
ويسيح الدم وتتناهب الأيدي و الفرائس.وتسقط البنادق وتسود خشخشة الخيانة . من يحكي عن هذه الحفلة العاصفة بالوطن إلا من يقترب من مفرداتها نالكثافة من الخيبات والخذلان وتعثر الأحلام. ولا يجد تلبية لما يتوق إليه كذات ثم كمواطن يبغي الخلاص والعيش في وطنه لا يتقاسمون وجهه كفيء او غنيمة حد الهزيمة
على سبيل الخاتمة :
في السّابق وأنا أقرأ الكثير من القصائد، كنت أشعر أنها خفيفة وجميلة، وكنت أسميها قصائد سياحية، كنت أشعر أنها ناقصة، قدرة تعبيرية وعبارات رشيقة وخيال جميل، ثم في النهاية ليس هناك معنى أو قيمة أو موضوع أو رؤية فكرية تجعل النص يبقى في الذاكرة، لكن مع قصائد" الناصر العماري" نجد ذاتية عالية وواضحة، لكنها منطلقة من معانٍ موضوعية وإنسانية رفيعة القيمة ورفيعة الأدب.
وأخيراً يمكن القول أن تجربة الشاعر هي تجربة البحث عن ذات ضائعة، قلقة .. بحث عن إنسان سامقا كما الوطن تماما مفقود، وأيضاً بحث عن زمن مفقود، تشترك في أسئلته المؤلمة مع الكاتب الكبير بروست في روايته التي تتكون من مليون كلمة: «البحث عن الزمن الضائع»...
لذلك رحلة البحث كانت بين الموجود والمنشود بين الذات ..الله ..الإيمان الوطن والحرية ..والخيبات والانكسارات .وتلك لعمري تصوره في المقابلة بين الملائكة والشيطان .. .بين المرارة.والخيانة ..بين البحث عن ركن شديد وبين ضياع الإنسان وأوطان تداس ...كل ذلك يحيلك الى السؤال أيُّنا ملاك وأيُّنا شيطان!؟وكما قال المسعدي "أيهما اصدق الله أم الشيطان؟" لان الإنسان استحال إلى طلسم ....أرقام طافية كفوانيس لا تعمل ...وتلك هي قيمة الشاعر الناصر العماري في مجموعته " العنقود " معه تستطيع تحمل أي شيء المسافة، الحزن ، القلق و حيرة الآتي ، ثمة شيء واحد لا تستطيع تحمله معه ... إنه أللااطمئنان ، المخاطرة وعلني أصفه ب"القاصف المباشر" ، إنه إحساس مريــع...وواخز كإبرة وفتّان كالنار في الهشيم وجميل..كالاه إغريقي قديم ...
وكانه يصدع عاليا ."ها نحن نعيش أوهاما على أنها حقائق ونحيا حقائق ونخالها أوهام " مد وجزر ...لا ينتهي ،فإن التأثير هو “الاستعارة التي تورَط رحم العلاقات الزمانية والروحية والنفسية،وهو ما حملت حبات العنقود من حبات متفجرة وكانها الغام مفخخة نسيها سعاة البريد على قارعة حلم عند منحنى الطريق الى الحقيقة المرة.. / مراد س
Reactions

تعليقات