القائمة الرئيسية

الصفحات


 أكتب إليك الآن يا فقيدي و فوضى داخلي تفضح سكون اللّيل..

صوت آت من بعيد يقترب منّي شيئا فشيئا لا أستطيع أن أميّزه..صوت غير مألوف، للمرّة الأولى أسمعه..
إنّه صوت يناديني دون الآخرين:
"العطلة تقترب شيئا فشيئا تفصلنا عنها أيّام معدودة و بضع سويعات و ستجمعنا المحبّة بأفراد عائلتنا الذين حرمتنا منهم الغربة الموحشة بعد غياب طويل..اشتقنا إليهم كثيرا..سنراهم من جديد..سنقبّلهم تلك القبلات الحارّة.. سنضمّهم..
سنشعر بدفئهم..سيكون اللّقاء مميّزا كعادته..سنحضن الأم الحنون
سنقبّل الأب العزيز..سنضمّ إلى صدرنا الأخت الحبيبة و..و.."
ثمّ انقطع صدى ذاك الصّوت..
التفتُّ يمينا و شِمالا ..نهضت من فراشي أسارع الخطى لأتتبّع أثر ذاك الصّوت الذي اختفى فجأة..يا ترى ما الذي عطّل حركته؟..ماذا أصابه حتّى انقطع فجأة؟
بقيت شاردة الذّهن..تؤنسني وحشة الظلام الداّمس في وحدتي..بقيت أتساءل ما الذي حدث إلى ذاك الصوت..؟ما سبب اختفائه..؟ما خطبه..؟ لماذا ناداني دون الآخرين..؟
بقيت حائرة لم يغمض لي جفن..بقيت مستيقظة أنتظر عودة الصوت الذي خفت صداه ثانية..و بينما أتململ في فراشي سمعت شهقات تدنو منّي، شهقات اهتزّ لها صدري..
إنّها شهقات الصّوت نفسه،ذاك الصّوت الذي كنت بصدد الإصغاء إليه..ما به يا ترى؟ما الذي حلّ به...؟
قاطع أسئلتي الكثيرة بنبرة حزينة،مات أخي الصّغير في سنّ السّادسة، مات ابني في عمر الزّهور..مات من كنت له أختا، من كنت له أمّا، مات من كان يناديني أمّي لا أختي..مات قبل أن أودّعه..مات قبل أن أضمّه إلى صدري..مات قبل أن أقبّله تلك القبلة الحارّة حينما أعود إلى منزلنا بعد غياب طويل..لقد مات قبل أن أرى تقاسيم وجهه البريء و ابتسامته اللّطيفة..لقد مات دون أن يمهلني بضع سويعات لأرى بريق عينيه..لقد مات و ترك لوعة تحرق الكيان..لقد مات أخي..لقد مات و ماذا بقي لي من هذه الدّنيا؟
ربّاه..ما الذي يحدث؟
لقد مات أخي..و النّاس يتحدّثون
لقد مات أخي..و الأطفال يلعبون
لقد مات أخي..و التّلامذة إلى مدارسهم ذاهبون
لقد مات أخي..و النّاس يضحكون
لقد مات أخي..و النّاس يفرحون
لقد مات أخي..ألم تتوقّف الحياة من بعده؟
كلاّ..الحياة مستمرّة لن تتوقّف لكن أشيائي كلّها تعطّلت منذ رحيله حتّى الذّاكرة تعطّلت ،أصبحت مشلولة لم تعد قادرة على تذكّر أيّ شيء سواه..فقط تتذكّر أشياءه بتفاصيلها و لا سيّما تلك الأيّام الحلوة التي صارت مرّة كالحنظل بين ليلة و ضحاها..
تتذكّر جيّدا تفاصيل ذاك الصّباح المشرق الجميل الذي طوته الأيّام الحزينة.
لا أزال أذكر ذاك الصّباح الجميل النّابع من الذّاكرة، ذاك أقصى ما أتذكّر..و لكن ذاك الصّباح اليوم يختنق و يلفظ أنفاسه الأخيرة..أريد أن أعيش ذاك الصّباح الذي اندثر و تلاشى بكلّ تفاصيله..لكن لا أستطيع..فمن كان يشاركني فرحة ذاك الصّباح و يقاسمني تفاصيله رحل و لن يعود..
لكنّي في هاته اللّحظة أستعيد فقط ذكريات ذاك الصّباح و حرارة الدّمعة تحرق خدّي.
لا أستطيع أن أمحو تفاصيل ذاك الصّباح العالق بالذّاكرة..كلّ شيء أذكره،كأنّني أعيش اللّحظة الآن..
لا تزال الصّورة تلوح أمامي، و أنا قابعة في فراشي الآن،و أتطلّع عبر ذاكرتي إلى ذاك الصّباح حينما كنّا نتخاصم لكن خصامنا كان رائعا..حينما كان أخي يسحب الغطاء ليلسعني برد الشّتاء من خدّي..و لكن هذا الصّباح لدغتني حرقة الوداع الذي لا أمل في اللّقاء مجدّدا..حينما كان يدغدغني ليسحب الوسادة من تحت رأسي..حينما كان يفتح التلفزيون بصوت مرتفع ليزعجني.
أذكر ذاك المشهد، حينما كان يروح و يجيء ليوقظني، و يصرخ..إنّها السّاعة العاشرة و أنت مازلت نائمة، في الحقيقة لم أكن نائمة فقط كنت أتظاهر بذلك، لأنّي أردت أن أستمع لثرثرته، أردت أن ألعب معه و أدغدغه و أشمّ رائحته،و في تلك الأثناء، كانت أمّي تعدّ لنا فطور الصّباح، عصيدة يطفح عليها زيت الزيتون و لكنّني كنت أحبّذها بالزّبدة و التّمر..أذكر جيّدا حينما كان أخي يقول:أمّاه، لماذا أعطيتني حبّات قليلة من التّمر و ابنتك أعطيتها أكثر منّي؟" تضحك أمي و تضمّه إلى صدرها قائلة:" أيا بنيّ، الصّغير فقط يأخذ القليل و تغمزني لأقول لها صدقت..و ما يكاد يملأ بطنه حتّى يقول لها أريد بيضة مسلوقة..إنّه ابنها المدلّل لا تستطيع أن ترفض له طلبا.
مازلت أتذكّر كلّ تفاصيل ذاك الصّباح الذي رأيت فيه وجه أخي المضيء للمرّة الأخيرة و سمعت ضحكته الرّائعة التي مازال صداها في أذني إلى الآن.
رحل أخي و ترك صباحي يتيما و أيّ صباح يتيم هذا أحياه كلّ يوم دون ضجيجه؟
"صباح جميل لن يعود"
تونس
Reactions

تعليقات