القائمة الرئيسية

الصفحات


 امرأة الليل

عندما تهزمها الملامات كي يجني الليل بأرق النسيم، هناك يكون شكل الهواء صديق الغصّات هروبًا من جلَّادي الإحساس عبر نوافذ الروح ووجه الشوق خافت كالحزن حيث الصمت والصدق يجتمعان في سكون الليل فيرسم القلب الوجع على شكل وردة حمراء ،
على جبين القمر تخاطب كرستين وجعها أواخر الليل وتحلم ببقايا زهور عبر وديان القهر العظيم ،
وفي تعاويذ جديدة وتمائم أخرى تهمس لسيد قلبها فتذهب الحروف والفيافي في سكون الليل الواجم ،هناك حيث أدمن الوجع جراحها وألامها في هول الزمن ،
مات حبيبها وصار الغيم فوق مدينتها ثلجا أسودَ وكأنَّ طوفانَ وسنواتَ عجافَ سكنت قلبها الضعيف.
هكذا تلقت كرستين خبر وفاة زوجها في الغربة كوقع الرعود الرهيبة ..
هول الصدمة جعلها تردد كلمات كلما تلاقت في سرادقات الإجترار مع ذاتها ...
ليتني حجر، ..ليتني حجر ...
حتى الليل يشاركها النحيب فيبكيها ويرثيها
كيف ،كيف يلملم العمر أوجاعها ويجمع شتاتها ووجعها، إندثرت أحلامها في هموم الأشقياء مثلها، وكأنَّها نخلة أطلسية على مشارف الجبال تهوي كلّما تعتليها رياح عاتية.
يأتي الصباح وككل صباح ،تفتح كرستين عيناها خائفة من قدوم نهار عابس يحمل أكفان الموت والحزن والضياع
هكذا تشم رائحة التعب المثقل ومرارة الدهر في إشراقة يومها.
ثم يبعثرها صوت ابنها الصغير وكأنّه يناجي هو الآخر خالقه فيلعن وجوده البائس.
تتأبَّطُ اِبنها وتروح نحو الحقول غادية ،فهي تعودت ذاك العمل المتعب والحرارة والبرد والوقوف والانحناء تلهث وراء الزمن تريد أن تمسك به لتوقِف عقاربه اللاسعة فيفلت منها، ثم يأتي صاحب الأرض مساءً فيمدها ببعض المليمات التي لا تثمن تعرق تعبها وأرقها ..
... تقلب المليمات اليتيمات وهي تتساءل أي منهم ستسد بها رمق لقمة عيشها، وهذا الصغير المسكين الذي يغدو يومه ملقى تحت جذع الشجرة تحاول لملمة قميطاته لتدفئه من قساوة وغبار هموم الأيام وبين عشب الأمكنة لعلّه يحظَى بعطف بعض الأعشاب المترامية، هذا الجسد الصغير مرميٌ في دروب الجياع والحزانى فيلتحم مع وجَعَ وتوَجُّعَ أمّه يبكي ...
... ويعاود ...
.... والأم ترتعد وصرخاته
تلاهيه بابتسامه مناغشة ، وصرخات القهر صداها يتردد
دون هوادة بلعثمتها المعتادة التي ترددها ألاف المرات في اليوم :
ليتني حجر، ....
...... ليتني حجر ثم تليها بعض المفردات المليئة بالحزنى :
يَا لَيْلُ تَعُوزُنِي أَلْفَاظِي
وَتَجِيشُ نَفْسِي أَجُوبُ سُكُونَكَ
مَطِيَّةً لِألَامِي..
سَئِمْتُ أرْصِفَةَ الخَوْفِ
وَوُجُومَ الكَوْنِ...
وَضَجِرَتْ أَنْفَاسِي
من أَبْنَاءِ الشَيَاطِينِ
أَبْكِي الحَيَاةَ لِشَقَاوَتِهَا
فأَطْعَنُ ذَاتِي وَكُلَّ تَكْوِينَاتِي
أَهْجُرُ أَشْعَارِي وَنَزِيفَ كَلِمَاتِي
فمَتَى تُحَلُّ عُقْدَةُأَلَامِي؟
شَرِبْتُ منَ الحُزْنِ حدَّ الثَّمَالةِ
وَتَجرَّعْتُ عُسْرًا مِنْ أَرْضِ الحَزَانَى...
فيسكر المسكين في نوم عميق وكأن كلمات أمّه بددت ما كان يشعر به أو كأنَّه لحن في لون العشق الممزوج بآه الشجن ،
مشهد الأرض والطبيعة والشمس والنهار بالنسبة لها مرايا تعكس ظلال حياتها فتقتل وجه الحب داخلها حيث أن روحها مصلوبة في عمق الحلم العاري، مات بها الأمل وبصيصه فكيف تشرب من دموع المطر ودمها يسيل في أسوار مدينتها المهدمة فيحرق الوجع كل الأخضر واليابس في جفاف حلقها كلما عاودتها ذكريات تلقِّي خبر وفاة زوجها.
كالعادة كل مساء عند انتهاء العمل يأتي" بتر" صاحب الأرض ويضع بعض مليمات تحفظ تعاريجها المهيضة بجانب الرضيع، ثم تغيب الشمس في خجل مودعة الأفق البهي تودعه بكل لهفة وخجل وكأنّها تريد الإفصاح له بأنّها لا تطيق الوداع فتكون السماء بلونها الأحمر عند المغيب وتخبرنا خطوط الشفق الأحمر بكم الشوق الذي يملأ قلب الشمس وكأنّها تختصر في لحظة الغروب كل الشوق الذي في قلوب البشر ،
تطعم ابنها الجائع وتغير له ملابسه ثم تضعه في سريره الصغير الذي أعدّته بنفسها من عيدان القصب الرطب وتدثره ببعض الأقمشة كأنه عشُّ عصفور صغير ثم تأكل ما جنته اللوعة من تعب النهار وتأخذ مكانها المعتاد وترفع ستار النافذة الشفاف فيفتح لها الليل أجنحته ليحتضنَ كل الألم الذي بداخلها ويبدد جزء من أقدارها الملعونة ولكن هذه الليلة تلبدت السماء بالغيوم واكفهَرَّ وجهها عابسا هطلت المطر بغزارة وقصف الرعد وقعقعَ وكأنَّ الدنيا مجنونة عاودتها نوبتها فتصرخ وتقفز ، فانقبضت نفسها وتراجعت خائفة متسائلة في حيرة من أمرها :أأُغادر هذا البيت الدافيء لأواجه ذاك الزمهرير الهائج وهذا الصغير لحاله ماذا أفعل وإلى من ألوذ ، غدا سيتوارى العمل في لعابِ الطين ودكن السماء وستغيب المليمات عن مصافحة راحة جيبي المثقوب فكيف أطعم و أدثر فلذة كبدي وهذه الحيطان الصماء الساقعة تعلن تمردها تتكالب عليه وإشاحة المليمات ،
أفاقت ،
سرت ....
..... تهذي قدماها في شارع مقفر حاديها قلب الأم الحنون لتخوض في عواء الثلج الذي يشاكس شهقات وزفرات صدرها الموجوع ،
ترافقها كظل غير مرغوب فيه ريحا عاتية تصفع وجهها وتلسع ساقها وتتسرَّب تحت معطفها البالي المرقَّع بالمرارة فيقشعر جلدها ويرتعش جسدها وبينما هي تجمع أعواد الحطب ازدادت العاصفة قساوة لتفصح عن دفاتر الشقاء ويتساقط الثلج يرجم الأرض وكل من عليها فيتشقق زفيرها باحات ثلج أمام نواظرها وهي تناظر جداول تتدفق ملتوية تجرف التربة وتجرف معها الحياة، العاصفة تعلن الرحيل ..
.... ساعة من الزمن مرت على كرستين أطول من الدهر كيف يهدأ بالها وابنها لحاله، ركضت نحو المنزل تتخبط غير آبهة بالحفر والمنزلقات.
يا للهول ،ذاك المنظر الفضيع يفتت الصخور وتنفطر لرؤيته الأكباد، صعق معها جيرانها ووقفوا مذهولين من هول الفاجعة، كانت صرخاتها مدوية سقطت إثرها على الأرض مغشيا عليها وانقلب المكان إلى مناحةٍتمزق نياط القلوب.
عاد الحزن أضعاف وأضعاف وأمست حياتها خواء لا بهجة فيها ولا إرواء يرين عليها وحشة وملال، تجوب كرستين الأرصفة الممسوسة هائمة في شمس مكحلة وتاريخ من الألم تطوِّقُها خيوط الزمن البائسة فتهزُّ أعماقها ليبقى جسدها محبوسًا في خزانةِ الوجودِ البائسِ وصدى مناغاة صغيرها مبعثر في سويداء ذاتها ،
مرَّ أسبوع بحاله وكرستين تبعثرها براكين الإنتظار والأمل والحزن والأسى لعلها تسمع بكاء صغيرها.
يطرق الأمل باباها بينما هي غارقة في بحر من الضيم والأسى ،تقفز جارتها جوري التي إحتضنتها وآوتها عندها بقلب من الرحمةِ والمودّةِ، يجيبها من وراء الباب صوت عالٍ، سيدتي نحن الشرطة ونودُّ من السيدة كرستين أن تذهب معنا لأمر يهمُّهَا، ينقبض قلب جوري خوفًا ثمّ تخاطبه متلعثمة سيدي هل لي أن آتي معها..
يجيبها :أنتظركما في السيارة سيدتي.
تركب كرستين بخطى متثاقلة.....
دخلتا مركز الشرطة عمَّ صمت رهيب المكان، فجأة ظهر رجل ضخم طويل القامة يحمل مجموعة من الأوراق وأخرى حافظة نقود وساعة وبعض الأشياء الأخرى التي لم تفهمها كرستين جلس أمامها وحاول استجماع كلماته ليخبرها بهذا الأمر المؤلم ثم تتعثر كلماته من جديد، اعذريني سيدتي لبشاعة ما سأقول.
ترد كرستين بصوت مثقل برضاب الأسى مجللة أنا يا سيدي بالحزن من منفى لمنفى ومن باب لباب أذوي كما تذوي الزنابق في التراب وقناديل دموعي شقت عباب الأرض.
يستأنف الشرطي قوله :سيدتي البارحة وجدنا جثة ابنك بجانب الوادي وإلى جانبه جثة أخرى وحسب البحث الذي قمنا به والوثائق التي وجدناها معه اتضح أنّه زوجك الذي كان خارج تراب الوطن هذه سيدتي كل الوثائق التي تهمك ثم هذه أيضا لك بعض من الوثائق المهمة فزوجك ترك لك ثروة ومرة أخرى نحن نتأسف على نقل هذا الخبر السيّء والمؤلم لك.
ارتعدت أوصالها وعقلت الصدمة لسانها ذاب قلبها وغاب صوتها وجمد الدم في عروقها ثم نادت منها صرخة قويّة مزّقت أحشاء السكون ورجَّت أوصال المدينة بأكملها، كيف وهي من أمضت العمر تقذفها مرارة الصد دون أن تنعم بحلاوة الودّكيف تتلقى خبر وفاة زوجها مرتين وموت ابنها ياللهول أي حياة هذه يالهول الدهر ،يا لنزيف مأساتها.
لربما يقفل الزمن أبواب الأسى داخلها وتوقدُ الشموع وتُقرَعُ الأجراس ويخاطبها ليلها بهودجٍ من قوارب رمل الصحاري :لا تحزني لأنّي مازلت أداوي القلب بنبض الرؤى ويمضي الزمان قائلا لها في حلكة الليل "مادام الإيمان في قلبك فأنتِ في بلاد الله الواسعة..
رمال عبد اللاوي
Reactions

تعليقات