القائمة الرئيسية

الصفحات


 صورة

تذكّرت ألعاب الصّغر بينما كنت أراقب السّحب البيضاء من شرفة بيتي. تذكّرت عندما كنت طفلا مع من هم في مثل سنّي في ذلك الوقت ننظر إلى السّحب في السّماء فنتخيّل صورا لأشخاص نعرفهم أو لحيوانات نشتبه أنّنا رأينا رسومها على السّحب. وكنّا نتبارى حول من يرينا صورة جمل في الصّحراء أو صورة أمّ ترضع ابنها.. أو.. أو.. ثمّ نضحك أحيانا وأحيانا أخرى نسلّم بأنّها صور حقيقيّة ونحاول أن نقنع بها الآخرين فنحاول تبصيرهم بما تصوّرناه صحيحا فنوجّه نظرهم بإصبعنا إلى ذلك الشّكل أو إلى آخر دونه لنبيّن أنّنا على حقّ. كان خيالنا يسبح بنا في عدّة صور ومشاهد لكنّها تبقى مرتبطة بخيالنا البسيط والسّاذج الّذي حدّده سنّنا آنذاك وعفويّتنا في التّعامل مع المحيط...
قد يكون ذلك الطّفل مازال حيّا في داخلي وفي تفكيري وأحاسيسي كلّما ألمّ بي شيء يضجرني أو يجعلني في مزاج سيّء فانحبس في طفولتي أو أعود إليها متعمّدا لأرى ما لا يراه غيري لكنّ الحقيقة هو هروب من الواقع أو إطلالة عليه من مكان آخر. هذه اللّيلة وأنا في شرفة منزلي كنت طفلا بجسد رجل وكنت رجلا بخيال طفل وكان ذلك الطّفل يسبح بخياله مع كلّ الموجودات من حوله فيصوغها حسب حاجته أو وضعيّته النّفسيّة والموضوعيّة وتسرقه رؤاه من مكانه وزمانه. أخذت أراقب سحبا بيضاء تنوّعت واختلفت فأوحت لي بالكثير. رأيت كلّ الّذين أفتقدههم بل وأرسلت إليهم تحيّاتي وبادلوني التّحيّات فشعرت فعلا وكأنّي أصافحهم وأسألهم عن أحوالهم فأتلقّى الإجابة وأجيب عن تساؤلاتهم. رأيتني أشاهد صور بلدي وأجوبها من خلال صورها المارّة تحت الغيمات. سرحت فبتّ كمن ركب تلك السّحابة وراح يراقب من عليائه كلّ المشاهد الّتي تصعب رؤيتها من حيث وقفت في شرفتي. شاهدت المرض وحشا يلتهم القويّ والضّعيف لأنّه استفحل بعد غياب أهل العلم عن الدّيار فقد هجروها لأنّهم لم يجدوا بين أيديهم ما يؤهلّهم لمجابهة المصائب الصّحيّة المتراكمة. هجروا البلد واستقرّوا بعيدا عنها لأنّهم درسوا وتعلّموا وبذلوا كلّ الجهد واستعدّوا ليقدّموا كلّ ما في وسعهم لكنّهم لم يتوصّلوا فالمصاب كبير وما بأيديهم لا يسمح لهم بأيّ فعل جديّ وصائب فرحلوا. رحلوا لا لأنّهم لا يعرفون كيف يصارعون الأمراض بل لأنّه أستهين بهم في بلدهم الّذي يحبّونه وها البلد تستأجر غيرهم وتستأمنهم على حياتنا والأجدر أن تستأجر أبناءها. ومرّت السّحابة فوق أحياء تهرّمت بنيانها وتصدّعت طرقاتها وانبثق الماء من كلّ الفجوات فعكّر صفوى المارّة وعوض أن يروي النّاس فقد كان مصدر اشمئزاز ومرض وأوساخ وبات القوم يتألّمون ممّا يلاقونه يوميّا في ذهابهم وإيّابهم ويخافون نزول المطر عوض أن يترقّبوها لتدرّ عليهم من خيرها. وتواصلت رحلتي فإذا بي أشاهد أسواق بلدي وقد امتلأت بما لذّ وطاب وبصنوف من البضاعة المعروضة هدرا. أقول هدرا لأنّه قلّ ما ترى قفّة قد امتلأت ودفع صاحبها ثمن ما اشترى أمّا بقيّة القفاف فقد اكتفت بما يسدّ الرّمق أو بالكاد يسدّه وعلى جنبات الطّريق امتدّت أيادي مرتعشة في حياء تطلب العون والمساعدة فوراءها أفواه يبس فيها الرّيق وخويت بطون وانطبقت وتدلّت الجلود الّتي تواريها. رأيت أطفالا مشرّدين بحثوا في الأزقّة والثّنايا عن أهلهم ولم يعرفوا أنّهم هم أيضا شرّدتهم يد الغدر فباتوا أغرابا في ديارهم أو ماتوا تحت انقاض بيوتهم المهدّمة من جرّاء حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. لك الله يا بلدي ولكم الله يا إخوتي فحتّى الصّاحب والأخ مدّ يده ليصافح العدوّ ويتعاقد معه وما فكّر لحظة أنّ الدّور آت عليه ليذوق وبال تفكيره في مصلحة خاصّة ضيّقة. تنقّلت بي السّحابة حيث رأيت فروق شاسعة بين فقير بائس يقضي ليله ونهاره باحثا عمّا يبقيه حيّا فقط وبين آخر ينعم في الخير بل ويبدّده هنا وهناك ولا يصل به حبيبه واخاه. انتهت جولتي حين حطّت بي السّحابة من حيث أخذتني فوجدتني حزينا أمنّي نفسي بأن يرى النّاس من بني قومي ما رأيت فيشتغلون على تغيير ما يروا في البلد...
رشدي الخميري/ جندوبة/ تونس
Reactions

تعليقات