القائمة الرئيسية

الصفحات


 الى التي أرى طيفها يراقص الحروف ,وانأ أخربش سطح الذاكرة بأظافر الحنين, فأختار أن أموت في النص موتا مشتهى..إلى أمي...

***الزعيمة***
-ليس هناك ما نخسره ،نحن النساء،سوى قيودنا...المرأة شتلت ثورة الحياة وجنت شوكها..سقيناهم شهدا فجرعونا المرار(....)
هكذا كانت تصرخ وقد اِنتفخت أوداجها وبحّ صوتها وحلّت الرجولة محلّ رقّة الأنثى ،ضجت القاعة بالتصفيق وضاقت بمن ضمّ المجلس من النساء وقد زغردت فرحة العتق. والتمعت في أعينهن كما تلتمع تلك المساحيق على بشرتها الرقيقة. ونمت لهن أجنحة اكتست ريش الأمل كما فرو معطفها "الفيسون" الناعم (...)
هذه الشعارات لم تفارق "الزعيمة" طيلة حملتها الانتخابية وأينما حلّت ازدادت أحلامهن وعظم الرجاء حتى خلتني في حلبة صراع تنهشني أظافر النسوة "المتمنكرة"وتنعتني بأشدّ ما تحتمله زُمُرُهنّ الرّقيقة ...
في الحقيقة لم أكن يوما ضد المرأة فأنا صنيعة أمّي "الصالحة "تلك المرأة الريفية البسيطة التي كما تقول أغنيتي المفضلة «اركزي ع الرملة كُرِّي لقدّامْ ها دايْ ...أُم قد طويل صالحة....» امرأة ركزت على رمال" شط المركب" وكرّت إلى الأمام ...
هل كان والدي "دكتاتورا" متسلطا وقد عرفته شهما مع ألدّ أعدائه؟فكيف يكون هكذا مع من يحب ؟ومع من ينعتها ب"دبوسة ركايبي" وجوانحي ؟هل اختار أبي أن تكون أجنحته مكسورة ؟هل قرعت أمي الطين برجل عرجاء!؟
هل كنت أعيش في وهم تعاظم كثعبان تحت جبّة أبي وتلوّى على حقوق أمي حتى اعتصرها وترشّف من معروق عظامها ؟
آخ من ذاك الكابوس الذي رافق طفولتي. في المنام؛ كنت أرى حجم أمي يزداد وينتفخ ولكن ما كان يؤلمني ويؤرقني هو ما يأتيه أبي حيث يخزها بإبرة فتنفجر هباء منثورا .ما معنى كل ذلك !؟تكاد رأسي تنفجر تتحرك نقطة الدم السوداء المتجلطة في دماغي. تحيلني إلى دهاليز مغلقة بحجارة متكلسة. نسجت عليها الأيام خيوطا وخِزّا أخضر كنسيج العنكبوت .أنا والأيام واحد ..أنا الزمان والزمان أنا ..بكل نسيجه المشع والباهت معا. أنا ثاني اثنين مع أمي في نفس الدهليز...
كدت أكره أبي هل كان حقا "مصارع الجمال" الكادح كدحا والملتصق بأمي حتى ظننته ظلا لها وهي ظل له...؟
هل كانت تلك السعادة التي تشرق من عينيها سرابا ظننته ماء وأنا العطشان إلى الحنين؟.....
تقول أمي إنني نسخة من أبي فهل أنا ورقة غمر بياضها حبر أبي الأسود القاتم؟
صحيح لم تكن أمي تلبس معطفا من الفرو ولا هي تقود سيارة أو تقرأ جريدة بين الأغراس بل كانت تحنو عليها برفق كأم رؤوم ،لم تكن ترتاد الفضاءات الفخمة. لكنها كانت بسيطة بساطة الفلاحين خشنة الأكف جراء مصارعة الأبقار وثورتها على المسحاة والأرض،لماذا ينظرون إلى النصف الملآنة من الكأس فقط، أليست النصف الثانية تشع بنور الشمس !؟ ،ألم تكن إحدى تلك الخيوط تشرق في صدري وتنير عتمة أضلعي التي سدت الدهليز؟..
كانت تشارك والدي في إدارة كل شؤون العائلة فهو يستشيرها في كل أمور الزراعة وبيع المحصول وتنشئة الأطفال حتى زرعت داخلنا ذاك الوشم السرمدي الذي طبع هوية الأسرة، بل كانت تحضر المزاد وهي التي شجعته على شراء تلك القطعة من الأرض بشط المركب والتي خلقت لنا زغبا جديدا في أيام الضنك الدنف هذه ...لعلها كانت علامة فارقة في نحت كيان الأسرة أكثر من أبي ولم أسمعها يوما تشتكي من سوء معاملته بل كانت تحثنا على عدم إقلاق راحته وكان هو يوصينا بها خيرا في المرات القلائل التي تفارقه فيها وهو ذاهب للعمل ،كان يعتبر الحقل خلاء بدونها.. وكم تحلو له مجالستها حول براد الشاي لعلني ورثت عنه هذه العادة، أو، لعلني سجان لزوجتي دون علم مني ولكنها ما اشتكت يوما كما حال أمي...
هل تبرأت الحداثة من أمي أو هي تنكرت لها؟
تقول زوجتي :
- أنا من موقعي هذا أعد جيلا بل أنحت كيان أسرة وأنا سعيدة مكتفية بذلك ..
هل أرغمها على لبس تنورة قصيرة وأنحني أمامها بكأس شافة بها مشروب بارد حتى أصبح رجلا حداثيا ؟
تجيبني مرفوعة الرأس:
-هل سيغير ذلك من عزة نفسي ونحن نقتسم الوجود ويطير كلانا بجناح الآخر ...؟
كل تلك ا لأفكار مرت بخيالي وأنا أستند إلى تلك الشجرة ذات صباح ندي ولمّا تشرق الشمس بعد ليقطع عليّ خلوتي أزيز محرك سيارة رباعية الدفع رأيت من خلال نافذتها سيدة فائقة الجمال انحصر ثوبها الحريري عن عمودين من مرمر النيلون ونهدين كاعبين من السلكون تنحصر فيهما الحياة القادمة من وراء البحار، تبدو مصففة الشعر منظمة الهندام والملامح ولفترة تقشعت صورة أمي ورحلت عني تلاشت في عمق السحاب ..تحركت نقطة الدم السوداء من جديد داخل أغوار رأسي المثقلة بالتيه ثم تراءت لي "الصالحة" ترتكز على الرمال في مواجهة الزعيمة بكل عنفوانها لم تكن مرتبة ولم تفح منها سوى رائحة الطين ،كانت زعيمة العطور ترفل في خيلاء أين هي من تلك الفلاحة الخشنة :
-ما بك أماه لِمَ أنت هكذا ،أين أنت من الزعيمة ؟ما بال هذا الصداع لا يفارق رأسي؟
تنظر الزعيمة لأمي تنهرها بازدراء :
-تنحّيْ من أمامي فما أنت إلا سنديانة تعاظمت وتآكل لحاؤها ،جفّت فسدت الطريق ....
تتخبط النقطة السوداء في دماغي من جديد فتمور دمائي وتتصلب شراييني،أنظر للحياة من نقاب الدهليز، تصرخ بي أمي ،تهزني هزا عنيفا،أستفيق على صوتها ،أراها كأشطان تشد الماء لخيل عطشى تطوي فجاج روحي،يتنازعني هاتف يبعث الدفء في أوصالي المتجمدة :
-ظلّلت طريقكم وجلبت لكم غيمة ماطرة..أشرقت شمسكم من كفي ،رسمت لكم عبر تجاعيده الخشنة خريطة تشرق خطوطها من وراء التلة...خلقت لكم من العدم أفنانا ،أمانة ناءت بحملها الجبال ،حافظوا على براعمها ليزهر الامل ...
تنصهر صورة أمي مع إشراقه خيوط الشمس بين أغصان السنديانة يتشكل المشهد القديم بين شعاع الضوء :الصالحة تقرع الأرض. نحلة مائية تبعث الحياة في كل ما حولها تحنو على الأغراس والحيوانات وتسقي الهطّاية الرحل من أكفها الخشنة المشرقة ماء زلالا .وتلقم الأفواه الفاغرة غذاء الروح للجسد،يتسع المدى في صدري المطبق... يهزني صوت هادر يذهب سكراتي. صوت جرار يقطع الصمت ،يغتال سكينتي ،أنتفض تحت شجرة السنديان ،لقد تكدس على صهوته جمع من النسوة على هيئة محاربي البشمرقة ،كان الجرار يتجه صوب مزرعة الزعيمة التي كانت تزورها بين الفينة والأخرى لتتمتع بنهاية أسبوع مريحة وكانت تفرض على حارس المزرعة،كما أعلمني،بل تهدده بفصله إن سمح لإحدى العاملات بقطع هدوئها لأنها تعرف أنهن يشتكين من الأجر الزهيد الذي لا يفي بنفقات عائلة ترنو إلى خلق أسرة متعلمة تتشوف إلى أبسط الحقوق من صحة وتعليم ...
كانت زعيمة النساء تلتقي بهن مرة في الشهر.وتحرص على تسليمهن مظروفا التصقت جوانبه لقلة ما احتواه من أوراق مالية. هي أجرة شهر كامل من العمل المضني من الليل الى الليل وهن يعزقن الأرض ويجمعن محصول الفراولة المعدة للتصدير ، حرّا وقرّا ،وكم تسعد عندما تدوي إحداهن بزغرودة تعبر فيها عن سعادتها بقدوم ولية النعمة سيدة من أعظم سيدات الكون امرأة ونصف ولكنني إلى اليوم لا أعرف نصف ماذا نصف رجل أم نصف امرأة أخرى كما أنني أجهل إلى الآن من الحداثية ؟ من حذقت فن انتاج الحياة من العدم ؟ أم من حملت الفراولة بلون دم الكادحات إلى ما وراء البحار ؟
........ولد الصالحة......... فوزي النجار.............
متابعة / سهام بن حمودة
Reactions

تعليقات