القائمة الرئيسية

الصفحات


 الى من علمني أن الكتابةعلى صفحات الحياة لا يتحملها الورق

***الأيّام كيف الرّيح****
لم يذهب أبي يوما إلى الحلّاق من أجل حلاقة ذقنه فزياراته للعم"حمده حمام" تقتصر فقط على تقصير شعره. أو من أجل الحجامة "بالمغيثة" فيخرج له من رأسه ذاك الدم الفاسدكما كان يقول .. ولم يكن رحمه الله يحذق الحلاقة. ففي المرات القليلة التي جرّب فيها الحلاقة بمفرده كان يترك خريطة دون مفاتيح في وجهه. كانت الصالحة الحلّاق المفضّل لوالدي. فلا جروح ولا خدوش. ولا تذمّر. رغم أنه كان لجوجا غضوبا... لم تملّ الصالحة من مهمتها هذه سوى من الموسى التي قد تكون أحيانا مفلولة فتتحرّج عند أبي كلّما نزلت منه قطرة دم.ولكنه يبادلها البسمة ويشرق وجهه من وراء لمعة تبرق في عينيه "لا عليك يا عم صالح ما هي إلا وخزة نملة في جلد أسد" وتضحك أمي ويطرب قلبها...
ازدادت عناية أمي بمظهر أبي بعد أن أقعدته الجلطة اللعينة عن الحركة .وازداد معها غضبه وتبدل سلوكه. فقد أصبح مزاجيا حدّ النخاع, وحساسا حدّ البكاء .فهمت الصالحة, بالسليقة وضعه الجديد فلا هي دخلت يوما مدرسة ولا كانت لها دراية بالطب النفسيّ.إنما علمتها الحياة كيف تتصرّف على سجيّتها فقد حفظت قوانين الطبيعة ونواميس الوفاء وتشرّبته في سلوكها اليومي مع النبات والحيوان فكيف برفيق دربها وعمود خيمتها,ظلّة الحياة وقت القرّ والحرّ ... كرّست بقية حياتها للعناية به. وتفننت في إسعاده ,كانت تحلق ذقنه وتمشط شعره .وتغيّر له ملابسه حتى يصير ك"المشموم" ثمّ تجعله يتصدّر كرسيا أمام الدار حتى يلاقي معارفه ويرى وجه الله كما تقول. كنت أحيانا وأثناء أوبتي من المعهد أغازله "اش يعمل الزين يبزنس في البناويت؟ إلاّ ما نفضحك عند عم صالح. وإلاّ تعرف كيفاش؟ لوّح علينا منها كبرت خليني نشوفلك وحده صغيرة على ورقتين" وأشعل له السيجارة التي حرّمتها عليه الصالحة بأمر من الطبيب وأقعى بجانبه حتى تلامس ركبتاي الأرض.أمسك عودا أنخس به الأرض, راسما طلاسم وأشكال مبهمة وكأنني أخطط أمرا ما ثم أمازحه " يا راجل ما يموت حد ناقص عمر وانت تبارك الله تهابك الجمال من دون الرجال " ريت الطريق هذا في أخره بئر ماؤها عذب زلال. مستقبلك قدامك عذب كماء بكر .الخطّ قال ولا أملك معه أمرا ولا سلطانا . .ويكركر أبي ملء شدقيه حتى تنفرج شفتاه المكتنزتان عن تلك الفجوة المحبّبة ويرتعش شارباه الغزيران وتغرورق عيناه دموعا. فيضرب على صدره بيده السليمة علامة السعادة بعد أن عقدت الجلطة لسانه...لقد أصبح مصارع الجمال الأسمر الذي تهتزّ الأرض السوداء تحت ضربات ساعده فتربو وتنبت... لقد أصبح اليوم طفلا كبيرا ينتظر كذبة بريئة تبعد سقمه وتزيل همومه. أبشع بها من هزّات تلك التي جعلت مصارع الجمال ذاك الأسمر المشبع بلون التراب والفاره الذي يلامس النخل في شموخه ويعانق الزيتون في قطوفه مقعدا يتحرّك بمقدار.
وان الزلازل لا تقاس خسائرها بطول مدتها إنما بقوة تدميرها وموقعها من نبض الحياة...
جرت الصالحة بين يديه كالماء في سواقي هادئة سلسة رقراقة فقد كانت تضعه على "الكريطة" وتقوده ألى شط المركب أين أفنى عمره في خدمة الأرض وكانت له مع كل حصاة ذكرى ومع كل شبر خطوة ولكن بقيت في قلبها حسرة ,جمرة تحرق أنفاسها كلما تنهدت " لم أنجح في أن أجعله يعتلي الجمل"
وتصدح أمي بأهزوجة أبي المفضلة "الأيام كيف الريح في البريمة ...وتزعق في أخرها بما يفتت الأكباد " جراله كيما جمل النواعير يسمع الماء بالتهرهير ولا يشربه لا يشوفه"...
لطالما تجلس أمي تحت الشجرة الأم تلك التي شهدت تاريخ العائلة.تعشق أمي نسمات الشرق المحمّلة بهواء البحر النديّ وبرائحة الأرض المعبّقة بعرق الطين . تصيخ السمع لهسيس الريح بين سنابل القمح والشعير وتتنصّت لأصوات الحيوانات فهي تدرك من نبراتها ما تحتاجه "البقرة البلقاء تريد أن ترضع صغيرها النعجة عطشى الأشهب جوعان..." وتلحّ على تلبية رغباتها ولكن في أغلب الأحيان هي تهيم بخيالها شاردة. تحسب من الوهلة الأولى التي تراها فيها أنها ليست بمفردها. بل هي في عالم آخر سماويّ . تحادث أحدا وهي صامتة أو تشهد شريطا طويلا يمرّ أمام عينيها .كم وددت لو أنني أحضره معها .أحيانا أهمّ بأن أقاطعها نجواها. ولكنني كنت أدرك أنها تقشّر الذكريات وهي تحكّ ذاكرتها بأظافر الحنين. لكن الحكّ تحت الجلد يصبح أكثر ايلاما وملح الدمع أكثر حرقة. لذلك أعرض عن التشويش على طقوسها المشتهاة. وأحترق لأجلها وأحترق أكثر لأنني لم أستطع أن أوفر لها بمنزلي هذا النمط من الحياة فقد فضلت أن تعيش مع أخوتي الفلاّحين الذين يذكّرونها بشط المركب وعالمه الخرافيّ..أدرك أنّ أمي حبيسة التاريخ والجغرافيا ولا أحد يستطيع تحريرها منهما ...
نعم مات جمل المجرة وتقيّدت بنهايته حركة أمي وورثت عنه "العديلة"لكن عندما يموت الجمل "تتفرّق العدايل"هكذا كانت تردد وتغني "
ليّام كيف الريح في البريمة غربي وشرڨي ما يدومش ديمه....
ياعين كوني صابرة عزّامة الصبر كلمة والفرج ڨدّامه
الصبر ماكيفه دواء للّيعة كميان سرّه خير من تطليعه
عند هذا الحد يتوقف القلم فقد تأجّجت نار الذاكرة وطغت البهارات.أخاف أن تحترق الطبخة ويفسد ملح الدمع طعمها .أشعر أن نقطة الدم السوداء المتجلطة بدماغي –والتي أورثنيها أبي- تسدّ تدفّق الأكسيجين في حروفي المرتجفة" ما بك أيتها الحروف العنيدة تتمنعين كشهقة حرّى احتبست في الصدر أو كآخر رغبة لم تتحقق...لا ألبث في نهاية الحكاية أن أجدني أشاهد شريطا لخيالات تخترق صمتي كأنها أشباح تخترق الجدران وترتعش شفتاي وهما تعاندان ترانيم تخرج تباعا " ليّام كيف الريح...."
فوزي النّجّار(شطّ المركب)
متابعة : سهام بن حمودة
Reactions

تعليقات