القائمة الرئيسية

الصفحات


 سفر

اقتطعت تذكرة سفري وأخذت مكاني حذو نافذة حتّى أستطيع من خلالها أن أتطلّع إلى خارج القطار وأجواره فأستمتع بالجمال والنّور وأمنّي النّفس بما سأناله من خير ما قد سأشاهد وحتّى أتمنّى لبلدي ما قد يجعله بلدا آمنا وسعيدا وأفعل حيال ذلك ما يمليه عليّ واجبي فيتنامى شعوري بالطّمأنينة والانتماء. وجلست قرب النّافذة أيضا لأرى أولادي ومن هم في مثل سنّهم ينعمون بما سنورثهم إيّاه فيتطوّرون ويطوّرون واقعهم ليجابهوا بذلك تحديّات عصرهم فيتتصرون على المصاعب ويتركون لنسلهم ما قد يتفاخرون به بين الأمم. لسوء الحظّ كانت النّافذة الّتي اخترتها ، وكلّ نوافذ القطار بعد، عليها ستائر داكنة لا تسمح لي ولا لغيري أن نرى من خلالها شيئا تقريبا، في حين بإمكان من كان خارج القطار أن يراني ويرى من حولي وبإمكانه أيضا ان يستشرف ما قد نلقى في ما سنلقاه أثناء سفرنا وكأنّ ذاك الّذي خارج القطار يتحكّم في مسارنا أو هو كذلك بحيث أمكنه التّكهّن بما ينتظرنا بل تقرير ذلك. أحسست باختناق كبير وكأنّ أحدهم جثم على صدري ووضع يديه حول رقبتي كي ألفظ أنفاسي. رأيت جلّ المسافرين يلتفتون يمنة ويسرة في بهتة ويتطلّعون في وجوه البقيّة كأنّهم يسألونهم " هل تشعرون كما نشعر؟ " وكنت واحد من الّذين يريدون طرح هذا السّؤال فكادت الإجابة تكون واضحة على الوجوه " نعم نحن نختنق مثلكم تماما ". أقول جلّ المسافرين ولا أقول كلّهم لأنّ بعض من في القطار هم سببا فيما نحن فيه وبعضهم الآخر كان " طابورا خامسا " جعل القطار الّذي نمتطيه لقمة سائغة لمن يريد توجيهه حيث يريد والتّحكّم في اهتزازاته وسكناته. حاول كلّ واحد منّا أن يجد لنفسه مخرجا أو حلاّ كلّ حسب قدراته وتطلّعاته ورؤيته الّتي ارتأى لنفسه في هذه الرّحلة. فهناك من أغمض عينيه وغطّ في نوم عميق بحيث لن يشعر بأنفاسه تلفظ وبذلك استسلم لواقع قد يكون أسهم فيه من قريب أو من بعيد ولأنّه كذلك فإنّ أغلب هذا القدر سطّرته له أيادي خفيّة وأخرى تعيش بيننا وتقول إنّها ترعانا وتحمينا بفضل ما تقوم به تجاهنا ثمّ إنّ هذا الصّنف من النّاس لم يسع قيد أنملة لتغيير الواقع فتلك ضائقة تفكيره أو هكذا أريد له أن يكون فرضي واستسلم. والصّنف الثّاني من المسافرين أغمض عينيه ليس لينام بل ليمضي في أحلام اليقظة وهي في الحقيقة أمنيات يريد تحقيقها في واقع حاله. هذا الصّنف، عاش طوال حياته على أحلام اليقظة وأوكل أمره لغيره وسلّمهم " شيكا على بياض " وسمح لهم بذلك أن يخطئوا ويصحّحوا كيفما شاءوا ليجد نفسه في نهاية الأمر منقادا بل وأكثر من ذلك فهذا الصّنف بات ينتصر لمن أوكلهم أمرهم ولخياراتهم وكأنّها مسلّمات ومن الغباء مناقشتها. الصّنف الثالث من المسافرين أبقى عينيه مفتوحتين ووقف على أحلامه ينتصر لها بنفسه ويستقطب لها من حوله حتّى يدعّمها ويحصّنها ويضمن لها الانتشار والقوّة بحيث تصبح تلك الأحلام والأفكار هي الأصل والواقع والمقرّر الأساسيّ لمسار القطار والرّحلة بصفة عامّة. لم يكن ذلك سهلا بطبيعة الحال فالعراقيل تبدأ من اقتطاع التّذاكر ونوعيّتها مرورا بإقناع من استسلم لواقعه -دون السّعي إلى تغييره- بأنّ المصير يقرّره أصحابه وبأنّ الحياة مغالبة والانتصار الحقيقيّ هو عندما نصمد أمام الصّعاب ونترك أثرا في الواقع مهما كانت نتيجة الصراعات الّتي خضناها. بعد ذلك نصل إلى مقارعة حجج من أوكل حياته لغيره دون مناقشة ما قد يفعلون بها وانتهاء بمعارضة أولئك الّذين جثموا على صدورنا وصادروا حقّنا في تقرير مصيرنا ومسار سفرنا. فكرة الصّنف الثّالث من المسافرين تأصّلت من اعتقداه الرّاسخ في حقّ الأمم في تحديد مصيرها بنفسها وبأنّ لا حقّ لأحد في التّدخّل في شؤونها وعليه لا بدّ من مواجهة كلّ من سمح لنفسه أنّ يربك مسيرة أيّ دولة ولا بدّ من رفض أيّ مصادرة لذلك الحقّ. بدأت السّفرة ويستمرّ المشهد على ما هو عليه تضطرم فيه أحلام النّاس وأفكارهم ويتحدّاهم الواقع بما أرسى من عراقيل ومطبّات. خلال الرّحلة، يحدث أن ينسى أو يتناسى المسافرون ما يعانونه من اختناق ومصائب فينصهرون في جوّ من الوئام واللّحمة وتنطلق ضحكات من هنا وهناك وتتوحّد مشاعرهم حول أغنية وقصّة وصورة وكأنّهم أصبحوا يعون أنّ مجابهة أيّ معضلة ليس عملا فرديّا بل هو عمل جماعيّ انتبه له الانسان منذ بدايات التّاريخ فالفرد أصبح قبيلة فعشيرة ف...ف...حتّى أصبحت كلّ دولة بما انبنت عليه من مقوّمات تختصّ بها عن سائر الدّول وهذا لا يمنعها في الاشتراك معها في ما هو إنسانيّ إذ أنّ كلّ أمّة لها سماتها وخصائصا وتبقى هناك خصائص عامّة تشترك فيها الانسانيّة جمعاء. فتعيب التّصنيفاة ليبرز الهدوء وينسى اامسافرون تلك السّتائر الّتي حجبت عنهم الرّؤية لتتّضح لهم بعض ملامح سفرهم مع بعضهم فيبدأون في إدارة وجهة القطار بعد أن حدّدوا مساره ورسموا لنفسهم مستقرّا ينعمون فيه ببعض الرّاحة. لن تكون بقيّة الرّحلة خالية من المطبّات والصّعاب لكنّ فعل المسافرين في أحداثها سوف يذلّل كلّ العراقيل بل ويجعل السّتائر حصونا تحميهم من التّأثير الخارجيّ فينتبهون إلى ضرورة الالتفاف حول مصير واحد والانتصار له بأيديهم لا بأيادي قد تعبث بهم وتهمّش مسيرتهم..
رشدي الخميري / جندوبة/ تونس
Reactions

تعليقات