القائمة الرئيسية

الصفحات


 حديث ذو شجون

ظهر عليها الحزن منذ زمن ولكنّها كانت تخفيه في كلّ مرّة ببسمة تتصنّعها. انتظر منها الجميع أن تبوح بما يعكّر صفوها لكنّها كانت تصرّ على التّكتّم كأنّها لا تثق فينا أو كأنّ الأمر ليس بيدها. تحدّث إليها أغلب من يعرفها واستحلفوها أن تفرغ جعبتها عسى ذلك أن يهوّن عليها ما بها فتستريح وتريح محبّيها فواصلت اصرارها على اخفاء ما يجعلها كئيبة فتواصلت حيرة النّاس وتساؤلاتهم. هي تعلم تعلّق النّاس بها وتعرف شغفهم الشّديد بما تحمله لهم من أخبار قد تجعل حياتهم أفضل. خاطبها كبارنا وشيوخنا بلغة غير التي خاطبها بها الآخرون فأدارت عنهم وجهها لأنّها رأت من بينهم من كان يخاتلها ويخاتل النّاس بما أبداه أمامهم في حين أنّه كان يفعل في الخفاء ما يجعله عرضة للاحتقار وعدم الاحترام فواصلت حزنها بل قد تكون بالغت فيه هذه المرّة فكأنّ بعض الّذين تقدّموا لمخاطبتها هم سببا من أسباب غضبها وحزنها. وعلى حين غرّة وفي إحدى اللّيالي نزلت بعض دمعاتها الدّافئة فاستبشر النّاس وهلّلوا لذلك إذ قد تكون دمعاتها تلك بداية الانفراج وقد تنفتح العقدة ونسمع أخبارها المفرحة. تلك الدّمعات كانت بمثابة إعلامها لنا بقمّة غضبها ولأنّها كانت دافئة فهي تفصح عن غليانها وما تستبطنه من حرقة وحسرة على ما تراه وما تسمعه من أولئك المخاتلين والمستغلّين وربّما أرادت أن تبلّغنا أنّها ستتحدّث إلينا عمّا قريب لكنّ حديثها سيكون حزينا ويحمل في طيّاته غضبا وخطابا موجّها إلى من عبثوا بنا وبمصالحنا وأرواحنا ابتداء بأولئك الّذين لبسوا جبّة الشّيوخ وراحوا يخاطبونها بلغة كانت ستكون مصدر سعادتنا وسعادتها لو كانت نابعة من قلوب صادقة وأيادي نظيفة. رجعت من الغد لتسفر عن بسمة مصطنعة لكنّ جبينها كان مقطّبا ففهمنا أنّها لازالت مصرّة على المناورة وإظهار ما لا تبطن. وعاد " السّادة أو الشّيوخ كما يحلو لهم أن نلقّبّهم " ليتملّقوها ويستعطفوها أن تحادثهم وعمدوا في ذلك إلى تقمّص دور أحبّاء الفقراء والطّبيعة والأطفال. لم تنطل عليها الحيلة طبعا لكنّ ذكرهم للأطفال والحيوان والطّبيعة ذكّرها بحاجتهم إليها ولحديثها معهم فبدأت تؤصّل لخطاب قريب يجتمع حوله النّاس والطّبيعة والحيوان ولكنّ هذا الخطاب سيكون خاصّا بمحبّيها وحبّا فيهم وليس نزولا عند رغبة المتسلّقين والمخاتلين. وكان ذلك في أحد الأيّام مع بداية اللّيل ونهاية النّهار. نزل خطابها خفيفا متدحرجا كأنّه إحماء لبقيّة الخطاب أو هو مدخل للحديث عسى ذلك يستقطب كلّ من يهمّه الأمر. ثمّ صار الحديث أكثر حماسة ومعه اشتدّت غزارة الدّموع لتمسح على جبين الأشجار وتلاطفها وتروي عطش تربتنا وتزيل عنها ما علق بها من أدران شوّهتها. كان حديثا شيّقا رغم قصره تناغمت فيه مشاعر النّاس والطّبيعة والحيوان. نعم تحدّثت الأمطار مع محبيّها وبشّرتهم بالعودة ومواصلة التّناغم لكنّها بلّغت أنّ البلد في حاجة لمن يحبّها كي تستقيم العلاقة بينها وبينهم. بلّغت أنّها نزلت لتلاقي أحبّتها وليس لها رغبة في التّواصل مع من استغلّها واستغلّ البلد. بلّغت أيضا أنّها ستعود لزيارتنا كلّما اشتقنا لها وستحدّثنا مباشرة وبدون واسطة غير مرغوب فيها...
رشدي الخميري / جندوبة / تونس
Reactions

تعليقات