القائمة الرئيسية

الصفحات

الملف الأزرق

رتب أوراقه داخل ملف أزرق، وحمل محفظته السوداء متجهاً إلى مقهاه المفضل قرب مسجد البلدية حيث تعود أن ينزوي في ركن مع أصدقائه، يتبادل معهم الأخبار والنكث فتتعالى قهقهاته لتصل إلى الرصيف المقابل للمقهى. 

كان هذه المرة وحيداً، جلس ساهماً كمن غابت من حوله الماديات، غارقاً في تأملاته بلا حراك كتمثال بشري، يرنو  ببصره إلى أقدم ثانوية بالمدينة مقر عمله الجديد، ويحاول أن يتخذ قراره النهائي.

فجأة أخرج هاتفه المحمول وأجرى مكالمة مع صديقه.

-ألو: أهلا سي يوسف، كيف حالك؟

-الحمد لله، بخير أود أن أخبرك أنه يجب علينا أن نغادر المدينة غدا مساءً.

-نغادر المدينة، كيف ذلك؟ ولماذا؟.

-هناك فرص عمل واعدة بدولة قطر، بإمكاننا أن نشتغل في التدريس في ظروف أحسن.

-أه ... لكن... المدينة... البحر .... السمك ....الصيف البارد ...

-لم يعد يعجبني في المدينة شيء... أريد تحسين وضعيتي المادية.
-لا أعتقد أنها ستتحسن، النوارس لا ترحل عن البحر.

-المهم بإمكانك أن تسافر معي، هناك متسع من الوقت لتفكر وتتخد قرارك النهائي.

-ممكن، الأرض لا تحتاج إلى أوتاد لتستقر في مكانها... لذلك سأفكر في الأمر بجدية. 

في اليوم الموالي كان سعيد يتأبط ملفاً أزرقاً و يساوم سائق حافلة ركاب متجهة إلى مدينة مراكش، قبل أن يتفقا على مبلغ مائة درهم، صعد سعيد إلى الحافلة، جال ببصره على كل الركاب ثم استقرت عيناه على شاب ينتعل حذاء رياضياً ويتأبط ملفاً أزرقاً، خمن سعيد ثم قال: لعله هو الأخر من الباحثين عن الجنة.

في محطة الحنشان صعد الى الحافلة جمع من الناس بينهم مرتادوا الأسواق الأسبوعية و يوسف يحمل محفظته وأحلامه الخريفية.

بادره سعيد قائلا:
-هل حملت معك الملف الأزرق؟
تحسس يوسف محفظته ثم قال:
- نعم هاهو بساط الريح، السجاد الذي ينقل الناس بسرعة فائقة نحو وجهتهم.
 
- أين سينقلك بساط الريح هذا؟
- إلى الجنة، الراحة والهدوء والمال...
بعد وصولهما إلى مراكش في يوم صيفي حار، توجها إلى مركز التسجيل، ووضعا ملفيهما  الأزرقين، وعادا أدراجهما في إنتظار رد المؤسسة المعنية بترحيلهما، وتحديد مدينة الإنطلاق.

لم يطق يوسف حر مراكش، وتمنى ألا يعود إليها يوما ما، لقد تأقلم مع مناخ مدينة الصويرة وصار يشبه السمكة التي لا يمكنها أن تعيش خارج الماء، لذلك كان سعيداً عندما أعلمه مكتب الترحيل بضرورة التوجه إلى مدينة أسفي للسفر بحراً نحو قطر. كم كان سعيدا  كطفل تسلم لعبته الأولى، عندما سمع الخبر وزادت سعادته بعدما تأكد من سفره بحراً وهو الذي عشق البحر ونوارسه.

في أسفي استرجع يوسف ذكريات المرحلة الجامعية، فجره الحنين إلى أماكن زارها ذات يوم، باحثاً عن بائع سمك يدعى سي إدريس، كان يتناول عنده وجبات خفيفة... وزار دروباً ضيقة تنعشه برودتها وتذكره بالصويرة المدينة التي عشق جدرانها ونوارسها.

نجح الهاربان في كراء شقة  تعود ملكيتها إلى أستاذة متقاعدة بعدما توسطت لهما سماسرة من أصول دكالية، وشرعا في ترتيب أمورهما لعلهما يحققان حلمهما. 

في الصباح الباكر كان الهاربان على مثن قارب مطاطي يستعد لنقلهما إلى دولة قطر، امتلأ القارب بوجوه متعددة وحزينة، فتزاحم الكبار والصغار على مقدمة القارب، فيما كان الهاربان يتكئان على بعضهما البعض قرب المحرك.

انطلق القارب المطاطي يمخر عباب البحر ويوسف يردد أبياتاً شعرية تذكرها:
بحر وغروب... وقارب يمخر عباب البحر هناك.
 ترى كم قارب مخر عبابك يا بحر...

ينظر يوسف خلفه مودعاً مدينة آسفي التي تذكره بالصويرة كلتاهما عشقتا الأطلسي ونامتا على كتفه، يعاوده الحنين إلى شوارعها ونسيمها، يقف فجأة ويتأوه منادياً صديقه:
يجب أن نعود، إنهم ذاهبون إلى الجحيم ... أوقف القارب، لا نريد الذهاب، يتوقف الربان مستغرباً فيما أصوات الهاربين تحثه على المضي قدماً، يمتثل الربان لطلب يوسف ويعود أدراجه إلى الشاطئ من جديد ليلقي بجسدين أعياهما السفر ... يتأبط سعيد ملفه الأزرق ويغوص وسط الحشود الهاربة من الميناء في زمن كورنا.

يقف يوسف وسط الميناء و يصرخ أنا تائه أريد العودة من جديد.

عزالدين الزريويل 
...

 

Reactions

تعليقات