القائمة الرئيسية

الصفحات


زارنا الموت١
سألني الموت فيما هو يحاصر إحدى الغرف في منزل أحد الأقارب ما الّذي جهّزته للقائي؟ هل قمت بواجبك تجاه والديك؟ هل عاملت ابناءك بما يمليه عليك دور الأب؟ هل كنت زوجا بما يتيح لك أن تفتخر؟ هل كان الوطن نصب عينيك وانت تسعى في أرجائه ؟... الأسئلة كانت تصدمني و تجعلني أراجع فعلي عبر الزّمان والمكان. كنت حبيس الأنفاس أمام مشهد الاحتضار..لا مكان للإجابة، لست قادرا على تحديد الإجابات فأنا فعلت في كلّ الأدوار أفعالا ترضيني وأخطأت في مجالات و كانت لي زلاّت أصلحت أغلبها . لكن هل هذا يجعلني قويا أمام الموت ؟. لم أكن كذلك حين سئلت، بل رحت أدعو الآخرين إلى الصّبر و قبول الأمر الواقع لأنّ الموت هو مآل كلّ الكائنات الحيّة بما فيها الإنسان وتجهّزت ببعض رباطة الجأش حتّى أقودهم إلى الصّبر.. تلك الأسئلة لم تغب عن خاطري كلّما انفردت و لو للحظة..ثم أخاطب نفسي هل يأتي الموت لكلّ الناس بنفس الطّريقة؟..هل يشفع للميّت أو المحتضر جميل أفعاله لصالح عائلته ووطنه؟ هل الموت برد وسلام وسكينة لمن نفعوا غيرهم رغم ما اعترى فعلهم من بعض الزّلاّت أم الأمر سيان عند الموت عندما يحلّ بأحدهم أو إحداهنّ يسلبه الحياة دون النّظر إلى الدّفاتر و بنفس القوّة والألم؟ هذه الحالة كانت تراودني كلّما كنت أقف على شرفة ميّت ثمّ أنساها بعد بعض الوقت لأستمرّ في مواكبة الحياة كما دأبت عليها وذلك كنت أحسبه من قبيل سنّة الوجود حتّى لا أظلم نفسي. هذه المرّة كما لو أنّي حيال محاكمة وجب عليّ أمامها أن أجيب على كلّ الأسئلة فكلّما حاولت التّهرّب من الإجابة بافتعال حديث جانبيّ أو صلب العائلة إلاّ وعاودتني الأسئلة عند أوّل انفراد بذاتي. هل يربكني الموت إلى هذا الحدّ؟ هل الحياة و حبّها هما سبب حيرتي؟ أم أنّي جبلت على محاسبة نفسي في كلّ كبيرة وصغيرة حتّى أعدّل بوصلة فعلي؟ وتحضرني في المساءلة شخصيّات بما أتته من قول و فعل و أبدأ في المقارنة ثمّ يذهب فكري باحثا في آثارهم واثرهم و أصنع لهم من وحي خيالي محاكمة حتّى كأنّي الموت أتيتهم وهم واقفين أو على فرشهم ينتظرونني . وأناديهم بأفعالهم و صفاتهم وأرى حكمي وفعلي فيهم من بشائر وجوههم . ثمّ رأيت الصّفات تنزع عن النّاس ليصبحوا سواء أمام الموت فلا مناصب تنفع ولا أموال ولا علاقات ...الموت سيد نفسه. وأعود إلى حيث أنا لأتفحّص الوجوه الّتي تحيط بالمحتضر وقد بدت عليها تساؤلات وحيرة أخالها نفس الّتي ألمّت بي فأستأسد مرّة أخرى لأقودهم إلى الصّبر و الدّعاء ثمّ العمل على لقاء الموت بملفات تجيب عن اسئلته حتّى يكون مروره سهلا و لذيذا. و علمت أنّ الموت يستلذّه المحتضر وليس كلّ محتضر فالّذي كان أمامي كان يبتسم ويهلّل بيديه وكانّه يطلب سرعة قدوم الموت في حين سبق أن رأيت من يتعذّب و يئنّ والدّموع تنهمر من عينيه فعلا الموت كان قاسيا وغير مرغوب فيه. تركنا الموت في مكاننا وخرج وقد جال ببصره في كلّ الغرفة وترك المحتضر يستعدّ للقائه وكأنّه أتى ليضرب معه موعدا و اختفى لكنّ رائحته بقيت تغمر المكان و بقيت رسالته إلينا فموعده مع كلّ واحد منّا قد يكون عاجلا او آجلا لكنّه أت فلنؤثّث ملفاتنا لنستلذّ الموت ولقائه...

رشدي الخميري/ جندوبة / تونس


 

Reactions

تعليقات