القائمة الرئيسية

الصفحات



*الاعتراف*

أتم "أحمدو" صلاته وجلس يردد بعض الأدعية ..ارتسمت على محياه ابتسامة مسحت عن قلبه غبار الانشغال ..اليوم ستجتمع القبيلة لتختار
اسما لمولودته الجديدة ..كانت تلك هي العادات في بلده الإفريقي الموغل في الصحراء..هنا مولده ومنشؤه ..طبيعة قاسية وحرارة خانقة ..إنه ينتمي الى الأقلية المسلمة فيه..اتكأ على الحائط وزفر زفرة ود لو محت عن خياله معاناة السنوات الماضية بينما الرياح تولول في الخارج وعواصف الرمال تكاد تعشي العيون ..
أطلت زوجته" هبستو" تستحثه على الاستعداد لاستقبال الضيوف ..أومأ لها موافقا لكنها بدت ساخطة وعابت عليه ركونه الى النوم والاسترخاء..
وماإن غادرت الغرفة حتى أفاضت نافورة ذهنه شتى الخواطر.." تظنني شابا يافعا !! لقد تجاوزت الستين من عمري..إنها زوجتي الثالثة ..أكبرها بثلاثين سنة..فقدت زوجتي الأولى عند ولادتها لابني البكر..تزوجت الثانية فأرتني الويل من سوء الطباع ..ولما افترقنا بالطلاق تركت لي حملا من الأطفال أصغرهم لم يتجاوز العامين ..فقد تخلت عن الحضانة شماتة بي.. تزوجت مرة ثالثة منذ عامين وها أن العبء يزداد ثقلا..سبعة أبناء وجراية معاش هزيلة تنضاف اليها مساعدات شيخ القبيلة ..تراقص رقم سبعة أمام عينيه وانضاف إليه رقم آخر ليصبح ثمانية ..و ارتسمت أمام ناظريه صورة حبيبته "سوزان "...لقد أغرم بها بعد وفاة زوجته الأولى لكن الاختلاف في الدين وقف حجر عثرة أمام زواجه منها ..فقد كانت مسيحية ..ولم تلبث حبيبته أن هاجرت الى بلد أوروبي ومن هناك أعلمته بولادة ابنته "دجينابو" وبقي الأمر سرا لا يعلم به غيرهما ..
ولم يأت المساء الا وقد توافد على بيته وجهاء الأسرة الذين يكونون المجلس القبلي ..كانوا رجالا طوالا ببشرة سوداء قاتمة وملابس بيضاء ناصعة وعمامات ملونة تلف رؤوسهم ..اكتمل المجلس وبعد سلسلة من الأدعية باليمن والبركة للمولودة الجديدة ولأبويها الأكرمين بدأ الحاضرون يتداولون مجموعة من الأسماء لكن صك مسامعه ترديد اسم "دجينابو" انتبه اليهم وقد أشرقت وجوههم موافقة على هذا الاسم ..مادت به الدنيا وود لو صرخ ملء أوداجه ..إنه اسم ابنته غير الشرعية ..لكن أنى له ذلك فحتما ستقصيه القبيلة عنها وتحرمه من المساعدات لو علمت بذلك ..هامت به شتى الأفكار وغرق في يم من الخواطر السوداء..انتبه على صوت الزغاريد التي علت في غرفة النساء مباركة الاختيار المتفق عليه ..وأوتي بالمولودة ..تسلمها شيخ القبيلة ورفعها الى الأعلى لإعلان الاسم المسند اليها ..عندها وقف "احمدو" معترضا فأثار ذلك لغطا بين الحضور ..اتسعت الأحداق وتوجهت اليه الأنظار ..كيف له أن يعصي قرار شيخ القبيلة إضافة أن اسم "دجينابو" أي زينب هو اسم ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم ...دام وجوم "أحمدو" مدة من الزمن وألجمت يده الممتدة اعتراضا كل الحاضرين..لقد قرر المواجهة وليكن مايكون..حتام سيخفي ذلك السر الذي يثقل صدره ؟ تنحنح "أحمدو" واختفت من أمامه كل الأنظار المصوبة اليه ..وأطلق لسانه من عقاله ..باح بالسر ..فشعر بالارتياح لأول مرة في حياته ..لقد عاش تحت جلباب قبيلته فأضاع حبيبته وتاهت من بين يديه ثمرة حبهما ..وكان اجتماع هذه الليلة القطرة التي أفاضت الكأس ..استرق النظر من وراء نظاراته الى الوجوه الواجمة يستكشف وقع كلامه ..وفجأة انتصبت أمامه هامة شيخ القبيلة بنظراته الحادة ..ود لو استطاع كتم دقات قلبه المتسارعة ..شعر أن وجيبها يطرق كل الآذان ..ولم يشعر الا وكلماته تزلزل كيانه :
-- يا سيد "أحمدو " علمت بالأمر منذ فترة قصيرة وكتمته انتظارا لهذا اليوم ..وما اختيار ذلك الاسم الا رغبة في استفزازك فلو كنت المبادر بالاعتراف عفونا عنك وان واصلت الكتمان والخداع سلطنا عليك العقوبة المعمول لها ...
تراقصت أمام عيني "أحمدو" شتى الصور ..وانذرفت من عينه دمعة يتيمة حارقة فأسدل رأسه ينهشه الحنين الى ابنته التي ألغى وجودها من حياته جبروت القبيلة بينما علت الأصوات تقترح اسما آخر...

بقلمي : فردوس المذبوح


Reactions

تعليقات