القائمة الرئيسية

الصفحات


في الهواء الطّلق
الزّمن هو نهاية الصّيف و قبل بدايات الخريف..و الوقت هو عندما أضرمت الشّمس نارها في مجال بزوغها..وضيعة الحبوب كانت مسرحا لأحداث قصّتنا بدا الأبطال فيها غير مشهورين و لم تشملهم أدوار يعرفون فيها غير هذا الدّور الّذي لزمهم طوال حياتهم فلم و لن يتبنّاهم منتج سوى هذا الّذي دأب على انتدابهم منذ وقت طويل. جلبت الآلة الحاصدة لتجمع محصول القمح و تعليبه في أكياس و هيّأت المسرح لهؤلاء الممثّلين ليلعبوا دورهم و ليؤثّثوا ركحهم بما يتماشى مع ما سيطرحونه .. يجمع الممثّلون التّبن و يرصّفونه على العربة المجرورة و بقدر ما يبذلونه من جهد بقدر ما يرضى عنهم صاحب العمل و بقدر تقديره لعملهم يكون تأجيرهم مقابلا له.. تجري المسرحيّة في مسرحا و في جوّ حارّ يغني عن أيّ تعليق وعن أيّ تفاعل من طرف المتفرّجين..أدوارهم ليست في متناول كلّ النّاس و ليس من هبّ و دبّ يفهم فيها أو قادر على أدائها.. وأدوارهم لا تثمّن و لا تقدّر إلا من طرف من انتدبهم و راح تحت الظّلال يراقبهم و يثمّن حركاتهم و سكناتهم و مدى تفاعلهم الجسدي والوجداني و حتّى هذا "السّيد" يفقه أشياء و تغيب عنه أخرى فهي قيميّة بالأساس.. دور هؤلاء قد يراه البعض بسيطا إلى حدّ السّذاجة و لكنّه يتعدّى حدود تقديراتهم و تقديراتنا.. إذ أنّ كلّ حركة لها معنى و كل صوت له دلالة ..و حبّات العرق المتصبّبة من جباههم هي المغزى الحقيقيّ و الرّسالة الكامنة وراء كلّ العمل الّذي يقومون به.. الحركة صراع ضدّ الجوع و الفقر و المرض..و هي أيضا درء للتّهاون و التّكاسل و التّواكل. و الأصوات المنبعثة من هنا و هناك هي مقاومة الضّعف و تحفيز للهمم و نداء للنّهوض نحو بذل الجهد ومزيد من بذل الجهد و الصّمود أمام الصّعاب و العراقيل..أمّا العرق فهو غسل أدران التّهاون و محاربة وجع استسهال لقمة العيش و الوقوف أمام باب المساجد أو التّسكع بين طاولات المقاهي طلبا للمعونة والحسنى..والعرق أيضا معناه الحياة..ومعناه استبعاد الاستقواء بالآخر..معناه الاعتماد على النّفس و التّعلق بالأرض وحبّها.. و العرق فوق الأرض هو انتماء و هو أيضا راية ترفع ضدّ كلّ من كسب فلسا واحدا دون عرق سال فوق الأرض..يقوم هؤلاء بدورهم و يتقاضون أجرا لا يثمّن في حقيقة الأمر ما بذلوه من جهد..لكنّهم مع ذلك يصرّون على دورهم و لعبه بكل فخر ..فيكفيهم أنّهم أصحاب فضل على عائلاتهم و على كلّ البلد و ربّما على بلدان أخرى..يأكل هؤلاء من عمل أيديهم و يسهمون في غذاء آخرين و لا ينتظرون شكرا و لا جزاء يثمّن عملهم و آدائهم البطولي..كان الظّلّ بجانبهم و لم يستظلّوا..وكان الوادي بجانبهم ولم يرتموا فيه ليقوا أجسامهم من الحرّ فهذا يخرج عن إطار نصّ مسرحيّتهم و يحيدون بذلك عن مغزى أدوارهم و معناها ..أمّا عن إنارة المشاهد فلا يوجد في الحقيقة سوى ضوء وحيد لا غيره ولا يمكن أن تملّ المشاهد رغم ذلك فقد لوّنوا مسرحيّتهم بحركتهم وأصواتهم و أهازيجهم ..أمّا عن الجمهور الّذي سيشجّع أو يثمّن فسيكون دوره بعد نهاية العمل كاملا و عندما يجلس إلى طاولة طعامه أو عندما يكون حيال شياهه أو أبقاره أو في السّوق عندما يكون بصدد البحث عن مادة هو في حاجة لها...
رشدي الخميري/ جندوبة / تونس


Reactions

تعليقات