القائمة الرئيسية

الصفحات

بورتري "هدى كريد شاعرة تضرم النار في استعارات الجسد" - حسن بيريش




بورتري
هدى كريد
شاعرة تضرم النار في استعارات الجسد..!!
حسن بيريش
(1)"لا مكان يحتويني
الصّحراء ضاقت عن أحلامي
أراني فوق
شراشف السّماء"..!!
أتخيلني أجلس قبالة انهمارها. عيناي تسرحان في ثراء يدها، وعيناها مسرف وميضهما في البياض. أحدق في ذهولها إزاء تمنع الكتابة، وأحملق في اندهاشي من ضلوعها في مكابدات بها، عبرها، يكون النص فعل نص، والشعر تمام شعر.
ها هي، الٱن، ممددة على سرير النص. ملتحفة بعباءة مطرزة
بالكلم، في عز قيظ الإلهام. يدها ترتعش، وقلبها يرتجف، ولا مهرب لها من شٱبيب الوجع الشعري.
إني أراها تحذف كلمة، تنقح عبارة، تثور في وجه مجاز، تعلو بقافية، تتودد إلى استعارة، تستاء من كلمة، ثم تحيل بياض المسودة على الشعر، فإن تمنع مزقت الورق، وإن رضي دنت به نحو تدانينا، فتسامقنا إلى حالقها.
إلى حد الٱن، ما انتبهت إلى وجودي، لأن وجودها في النص. ما كنت على ممد بصرها، لأنها كانت في مهب بصيرة الشعر. رأيت قلبها عار إلا من لبوس الكتابة، وما رأتني لأني عدوت نحو عزلتها مستورا إلا من عراء القراءة..!!
كان على أن أتركها في زحام وحدتها، كي أتخلص من وحدة ازدحامي بها. ولما كنت أتخطى عتبة هلوستي، بعد اجتيازي لباب هذيانها، سمعتها تخاطبني بحس عال، ينم عن مكر رأى ولوجي، وتعامى عن مغادرتي.
"معراجي ما اكتمل
مادمت لم أخطئ
عدّ القبل"..!!
(2)تقرأ لها، فتظن أنك تكتب عنها. نصها يشي بك أكثر مما يشي بها. ليس لأن النص لا يصدر عنها، بل لأنها تصدر عنك. تغري حاستك السادسة بالاستيقاظ، وأنت منداح في شعرها، لكي تبقى كل حواسها قيد ارتعاش حدوسها.
جرب أن تقرأ زخمك
في غمرها،
وجرب أن تطالع وجهها
عبر تقاسيم قلبك،
ستكتشف، مثلي أنا،
أن هذه التونسية الماكرة
لا تكتب لك،
بل تكتب عنك..!!
تلك مهارتها النادرة، تستثمرها، عبر فلذات النص، لكي تضمر ذاك الذي لا ينفتح إلا على المخفي. لأن المتجلي الأكبر في النص، ليس المعنى، وإنما أنت.
"أحبّ إغفاءة الموسيقى
فوق عينيك
كلّ الألوان الهاربة منك
حطّت على قلبي
زغاريد تصدح
داخل أوردتي".
(3)اكتشفت شاعريتها عبر الصوت لا العين. وأول نص لها قرأته بأذني. ولما تقصيت الشسع بين يد تهمس، ولسان يشدو، لم أعد أقايض شفوف سمعي بوارف نظري.
هنا الفرق بين قصيدة تكتبها ذبذبات صوت، وأخرى تنسجها دوال يراع. هدى كريد تمسكت بهذا الفرق، وهرعت بنا صوب أقاص بعيدة، حيث تقيم حوالق تطلعاتها.
إذا مدت يد القصيد،
أزهر ضوع حبقها
في أحداقنا.
وإذا يممت شطر الأثير،
أينعت ألوان الليلك
في أسماعنا.
الشعر عند هدى، ليس وجود تعبير في الكينونة، بل هو تعبير وجود في المصير. لذا، ينبني معمار نصها عبر الانخراط الثر في أشياء العالم، والامتلاء باختلاجات الذات، والتحاور مع تبدلات تفرض ضغطها على الكتابة.
"جهدت أن أكون أنا
ألملم تفاصيل البياض والسّواد
على محمل لوحة الأبديّة
غمرني شلّال الأنوار
أغرقني البهاء
تناثرت فوضاي
من غياهب المنسيّ
لا يمكن لفرحة أن تعاد مرتين
لا يمكن لكلمة
أن تحدث دهشة واحدة".
(4)المضمر اللغوي، كما يبرز في بنيات شعرها، لا أراه جسدا من غليان الدوال، بل يراني ضراما من استعارات الجسد. وهما، معا، فسحتي لتأويل ٱيات شطحها التعبيري، ولإدراك ماهية عبارتها، والتشابك مع تورية جملتها. ورهاني أن أنداح داخل أرخبيلات لغتها، تلك التي تعذب قريحتها، وتربك كل براري انفعال تعاطينا المتوجس معها.
"يتمدّد الرّصيف
فوق آخر شهقة
كم شحذتُ الأغاني للعابرين
على ضفافي
كم أولمتُ من جسدي وجعتُ
على منحدر أملس
أكتبني نجوى وصدقا ويقين كفر
بشرعة القهر
أمنح الخطايا للصّبّار
يلوكها على مضض...".
ترهقها الدلالات قبل أن تقبض على أطيافها، وتعتقل شوارد شبوبها، وتكتنز بجوامح تحليقها. هذا ما أستشعره، لما أقرأ كثير نصوصها.
(5)"أحبّ المسير
بلا نهاية
ووشوشة
الغواية"..!!
"شهوة الرقص" على دفوف المعنى، والسير باللغة فوق غيم مثقل بالوعود المستحيلة، وتحويل الدال إلى مفعول به، ثم جعل الفاعل ينوب عن المدلول. تلك أفاعيل هدى، وذاك عرام معجمها، حين تعتلي بمجازاتها نحو سدرة غير المدرك، نحو معارج التبدي في شهقات التخفي..!!
"أضنتني شهوة الرّقص
على الغيوم
والتّجوال على ضفاف الأبد
ليت نيرون يحرق كلّ الخرائط
ليت الأماكن أثر بعد عين
ليت الأزمنة بخور يعبق
في مجمرتي الصّغيرة..
طقوسها تغويني..
عمّدتها امّي بجرّة حبّ"..!!
ضالتها اللغوية تعثر عليها في أحراش المعنى. ما من صراط مستقيم للغة يمكن السير عليه للوصول إلى مقامات التعبير المرتجى. الشعر يوجد تحت طاولة الكلمة..!!
(6)"كم أولمتُ
من جسدي
وجعتُ..."..!!
إنها الأنثى في نصوص هدى كريد. ترغم على التفكير بوعي جسدها، وتحاسب على الكلام بصوت جسدها، وحين تثور على جسدها، توضع على هامش الحياة..!!
لكم كانت بارعة، هدى العارمة، وهي تبني جسر صراخها عبر رمزية وليمة الجسد، وما تبثه من معان غميسة، جزلة، من خلالها يدرك المتلقي مغزى ثنائية الوليمة / الجوع، ويعرف حجم المعاناة المستكنة داخل كلمتين.
إن الجسد الأنثوي في نصوصها، لا يفجر مكبوتاته في وجه الاستسهال الذكوري، بل توحي بشتيت رغائبه، عبر الرمزية الذكية، كي تضع الفحولة في مهب مأزقها.
"أتهادى عروسا للكون
أصيخ إلى وحيه...
حتّام أكتفي بالنّظر؟
حتّام أستوي بالبشر؟
كم من إجابة أزهقت روح السّوال
ياقلبي ذرني والأوهام
أبتنيها في الحال
علاء الدّين أغلق القماقم كلّها
والمارد في صدري
مرجل يغلي
يفور.. رأسي بالأفكار يمور.."..!!
(7)أتخيلني أعيش داخل نصها. تمدني بالنسغ. تهبني كل جنائن المجاز. تطوح بي نحو أواخرها لأبقى في أوائلها. ولا شيء ثمة يدلني على ما أنا عليه من اعترام والتهاب.
وها أنا أتأجج على مقربة من عطشها. كل الرواء لي، وليس لي غير ظمئي، به أرتوي أنا، وعبره يبدأ عطشها هي. ونحن، معا، داخل نص يكشفنا حد البرق..!!
"أكره علاماتِ المرور
وصُوى الطّريق..".
Reactions

تعليقات